في بيت بسيط يدفئه نور الحب، عشت مع ابنتيّ في انسجام يلامس الروح. لم تكن حياتنا مثالية، لكنها كانت مليئة بجمال التفاصيل الصغيرة التي تجمعنا. كانت الضحكات تنبعث من القلب، تملأ الزوايا الخالية بصدى السعادة. لم نكن نملك ثروة، ولكننا امتلكنا أغلى كنزٍ: راحة البال في ظل البساطة.
لكن السعادة في الحياة ليست سوى سراب يرقص على أفق الغياب. لاحظت على ابنتي الكبرى تغيرات مفزعة، كأنها إشارات لم أستطع فك رموزها. جسمها الضعيف يزداد هزالاً يوماً بعد يوم، وعطش لا نهاية له يكاد يبتلعها. ارتسمت علامات القلق على وجهها وعلى قلبي. ثم جاء القرار المشترك مع والدها: لا بد من زيارة الطبيب. لم أتوقع أن هذه الرحلة ستقودني إلى دوامة عاطفية، كنت أظن أنه مجرد التهاب عابر.
لكن الصدمة جاءت قاسية كرياح عاتية تقتلع جذور الأمان. "إنها مصابة بمرض السكري"، قالها الطبيب وكأن الكلمات تتحول إلى شفرات تجرح القلب. سقطت مغشياً من هول المفاجأة، فقد كنت عاجزة عن استيعاب ما يحدث. كانت تلك اللحظة بداية رحلة مليئة بالتغيرات؛ رحلة انتزع فيها الواقع أحلامي بلا رحمة.
مرت الأيام، ثقيلة كأنها تستعصي على الانتهاء. حاولت أن أتعلم كيف أحتضن هذا الواقع المرير، كيف أعطي ابنتي القوة بينما تتسرب قوتي من بين أصابعي. أصبحت الأمومة درساً جديداً في التحدي والصبر. كافحت من أجلهابي يترجم ألمي إلى عطاء لا ينضب.
وبينما كنت أظن أنني تأقلمت مع هذا القدر، جاء الاختبار الأعظم. بدأت الأعراض ذاتها تظهر على ابنتي الصغرى، تلك الزهرة التي كنت أحملها كأمل جديد. لم يكن التشخيص مختلفاً: السكري من النوع الأول، ذات الكابوس يعود ليطرق بابي مجدداً. شعرت وكأن العالم ينهار فوق رأسي، كأن الحزن يضاعف قوته لينال مني.
في البداية، رفضت الحقيقة. كنت أقاوم شعوراً يتسلل إلى أعماق روحي كخنجر مسموم. لكن شيئاً ما بداخلي استيقظ، أدركت أن الهروب ليس حلاً، وأن بناتي بحاجة إلى أم قوية لا تستسلم. مع كل يوم كان جهادي يتجدد، كنت أتعلم كيف أحتضن هذا الواقع الجديد بحبٍ يكتسي بالشجاعة.
اليوم، رغم كل الصعاب، نقف معاً، أنا وبناتي، في وجه التحدي. نحن نصنع من الألم درساً في القوة، ومن كل عثرة جسر نعبره نحو الأمل. الأمومة ليست مجرد علاقة دم، إنها قلب ينبض بالحب الذي يتحدى المستحيل.
....قصة من وحي الحقيقة
كتبتها الأستاذة
خديجة آلاء شريف
تعليقات
إرسال تعليق