كانت المدينة مبللةً بالحزن، تمطر فوق أرواح أهلها مطراً بارداً، كأن السماء تبكي بدلهم عن خيباتهم التي جفت لها المآقي.
الطرقات خاوية إلا من خطوات تائهة، تبحث عن مرفأ لا وجود له.
في زاوية معتمة من تلك المدينة، كانت "سلمى" تمشي تحت مظلة مثقوبة، والماء يتسلل إلى جسدها كما تسللت الخيانات إلى قلبها.
كان فستانها الأسود الطويل يلتصق بساقيها المرتعشتين، وعيونها معلقة في الفراغ، كأنها تنظر إلى نهاية العالم دون أن تملك القدرة على البكاء.
في جيب معطفها المهترئ، كانت تفتل ورقة قديمة بين أصابعها المرتجفة.
رسالة حب... صفراء اللون، باهتة الحروف، لكنها تحمل بين طياتها بقايا قلبها.
"أعدك أن لا تكوني وحيدة يوماً ما..."
تقرأها مراراً، والدمعة تسبق القراءة، فتفسد المعاني وتغرق الكلمات.
مرت بواجهة مقهى قديم كان شاهداً على لقاءاتهما.
توقفت.
ضغطت جبهتها على الزجاج البارد، ورأت انعكاسها:
امرأة نصفها ميت، ونصفها ينتظر الموت.
داخل المقهى، كانت الطاولات فارغة، والكراسي تنظر إلى بعضها بحزنٍ كأنها تفتقد من جلسوا عليها يوماً.
تذكرت كيف كان يمسك يدها عبر الطاولة...
وكيف كان يضحك دون أن يعرف أنه يبني قصراً من السراب على ظهرها العاري من الأمان.
كانت السماء قد بدأت تنوح، والمطر صار أثقل، كما لو أن الغيم ذاته فقد إرادته.
سارت "سلمى" بلا هدف حتى وصلت إلى جسر قديم فوق نهر فقد ماؤه لون الحياة.
وقفت هناك، تحدق في الماء الرمادي، وتحكي له عن خيانات لم يعد أحد يهتم لسماعها.
كل جرح على جسدها الباطني له اسم.
وكل خيبة كانت تنبض فيها كجرح لم يُخَط بعد.
وفجأة، عبر الجسر "آدم"،
لم يتغير كثيراً، سوى أن التجاعيد حفرت وجهاً أكثر قسوة، وعينين أكثر ظلاً.
لمحها.
توقف.
في تلك اللحظة، لم تكن "سلمى" مجرد امرأة مكسورة، بل كانت قصيدة ذابلة كتبت بالحبر والدمع.
ابتسمت له... تلك الابتسامة المنكسرة التي لا يملك البشر أمامها سوى الانهيار.
اقترب بخطوات مترددة، كأن الندم يشل قدميه.
لم يتحدثا...
كانت الكلمات خيانة في موسم الخيانات.
لكن العيون تحدثت بصوت أشد ألماً من أي اعتراف:
"لماذا قتلتني حين أحببتك أكثر مما ينبغي؟"
أراد أن يمد يده، أن يعتذر، أن يفعل أي شيء...
لكن الوقت كان قد فات.
سلمى أخرجت من معطفها الرسالة القديمة.
مدّتها نحوه بهدوء مميت.
فتحها بيدين مرتجفتين.
قرأ كلماته القديمة...
ثم رفع عينيه إليها، فلم يجد سوى ظهرها يبتعد، ببطء، كمن يحمل تابوت نفسه على كتفيه.
توقف الزمن للحظة،
وسقطت الرسالة من بين أصابعه إلى النهر المتسخ،
وراقبها وهي تغرق ببطء،
كما غرق هو حين تركها تغرق وحدها.
وفي الخلفية، كان المطر قد بلغ ذروته، كأن السماء تشيّع جنازة حبٍ لم يكتمل.
وفي زاوية المدينة، كتبت سلمى على جدار صدئ بدموعها:
"في موسم الذبح العاطفي... نحن لا نموت دفعة واحدة، بل نقطر كوجعٍ في قلب الغياب."
كانت هذه المرة الأخيرة التي تُرى فيها سلمى.
لم يعرف أحد إلى أين ذهبت،
لكن المدينة ظلت تروي قصتها،
كأسطورة امرأة ذُبحت بلا سكين،
وماتت وهي تبتسم.
تعليقات
إرسال تعليق