إلى من لا يقرأنا حين نكتب بدمعنا، ثم يسأل لماذا صمتنا.
في غرفتها الصغيرة، حيث رائحة الورق تختلط بعطر قديم يوشك أن يختفي، كانت تجلس كل مساء تحت ضوء أصفر باهت يتدلّى من السقف، وتكتب له.
لا تبدأ بالسلام، ولا تختم بالوداع.
كانت تكتفي كل مرة بجملة واحدة لا تُغادرها:
"أحبك… فقط لا أعرف كيف أقولها دون أن أنكسر."
هي لا تُجيد الحديث.
كل ما تعرفه هو الكتابة، والانكماش.
أن تحب بصمت، أن تنتظر بصبر، أن تسامح دون أن يُطلب منها.
كانت تكتب له كما تكتب الأرملة لزوجها الميت،
بكلمات لا تنتظر جوابًا، فقط تكتب لتبقى على قيد الأمل.
كتبت عن الأشياء الصغيرة…
عن فنجان قهوة مرّ لم تشاركه معه،
عن الأغنية التي سمعها دونها،
عن تلك المرة التي ابتسم لفتاةٍ في الشارع وأوجع قلبها دون أن يشعر.
كانت تكتب حين تتألم،
حين تشعر أنها لم تعد مرئية في عينيه،
وحين يحادثها جسده ولا يصغي لها قلبه.
مرّت الأيام وهو لا يقرأ.
لم يكن يعلم حتى بوجود دفاترها.
ولم يكن يدرك أن صمتها ليس هدوءًا… بل صراخًا مكتومًا يتكسّر على حدود الحلق.
وفي مساء خريفي، بعدما جفّ فيها كل نبع للانتظار،
جمعت أوراقها، رتّبتها كما يُرتب الميت كفنه،
وضعتها في علبة خشبية صغيرة، وكتبت على الغلاف:
"إليك… إن قرأتني يومًا بعد أن يتأخر كل شيء."
ووضعتها أمام بابه… ثم مشت.
مشت بثقل امرأة دفنت قلبها ومضت.
لم تلتفت، لم تنتظر، لم تبكِ.
الذين يبكون… هم الذين لا يزالون يملكون شيئًا ليخسروه.
هو لم يرَ العلبة.
أو ربما رآها، ولم يأبه.
فالمحبة حين تُهمل تصبح غير مرئية، كأنها هواء نقي في مدينة مزدحمة.
مرت سنوات.
وذات مساء باهت، بينما كان يُفرغ خزانة قديمة ليرتبها،
عثر على العلبة.
فتحها،
قرأ أول صفحة…
ثم الثانية…
ثم العشرين.
قرأها كلها دفعة واحدة، كما يُقرأ القدر بعد فوات أوانه.
كانت كلماتها تئنّ.
تفوح منها رائحة خيبة، وعطرها القديم، ونشيج لم يُسمع.
أغلق الدفتر.
ثم جلس على الأرض، كما يجلس الأطفال حين يفقدون شيئًا عزيزًا.
بكى.
لكن دموعه كانت متأخرة…
لأنها الآن، لا تكتب له.
ولأن ما لم يُقرأ في وقته… لا يُجدي حين يُقرأ بعد الرحيل.
الكاتب إدريس أبورزق
تعليقات
إرسال تعليق