للكاتبة / مي محمد عبدالرحمن مصر
كانت "بسمه" تجلس عند نافذة غرفتها، تحدّق في السماء الرمادية التي بدت وكأنها تعكس شعورها الداخلي. مضى عامٌ منذ أن فقدت والدها، لكنها ما زالت تستيقظ كل يوم وهي تتوقع أن تسمع صوته يناديها كما كان يفعل دائمًا.
في ذلك الصباح البارد، ارتدت سترته القديمة التي كانت تحتفظ بها، واستنشقت رائحته التي لم تبهت بعد. شعرت كأنه يحتضنها من جديد. كانت أمها تحاول أن تكون قوية من أجلها، لكنها رأت في عينيها الحزن الذي لم تستطع إخفاءه.
خرجت بسمه إلى الحديقة حيث كان والدها يحب الجلوس. جلست على المقعد الخشبي، وأغمضت عينيها. تذكرت كلماته الأخيرة لها قبل أن يرحل: "كوني قوية، ولا تدعي الحزن يطفئ نورك."
لم يكن سهلاً عليها أن تمضي بدونه، لكنها أدركت أن وجوده لم يكن مجرد جسد رحل، بل روحٌ تعيش فيها، في ضحكتها، في قراراتها، وفي الطريقة التي ترى بها العالم.
ابتسمت بهدوء وهي تهمس لنفسها: "أنت معي دائمًا، يا أبي." ثم نهضت، وعادت إلى المنزل بخطوات ثابتة، تحمل في قلبها قوة الحب الذي لا يموت.
مرت الأيام، لكن بسمه لم تستطع التخلص من شعورها بالفراغ. كل شيء في المنزل يذكرها بوالدها: كرسيه الفارغ عند المائدة، صوته الذي لم يعد يملأ أرجاء البيت، وحتى القهوة التي كان يعدها كل صباح، فتفوح رائحتها في الأجواء.
وبينما كانت تقلب صندوق الذكريات الذي يحتفظ بصور طفولتها ورسائل والدها القديمة، وجدت رسالة لم ترها من قبل. كانت الرسالة مطوية بعناية داخل كتابه المفضل. فتحتها بيدين مرتجفتين وبدأت تقرأ:
"ابنتي بسمه إذا كنتِ تقرئين هذه الرسالة، فهذا يعني أن الوقت قد حان لتعرفي أمرًا مهمًا..."
أخذت نفسًا عميقًا، وأكملت القراءة. كان والدها يخبرها عن حلمه الذي لم يستطع تحقيقه: كان يتمنى أن يفتتح مكتبة صغيرة، مكانًا يجمع فيه عشاق القراءة والقصص. كان يؤمن أن الكتب تمنحنا حياةً أخرى، فرصةً للحلم حتى عندما يخذلنا الواقع.
أغلقت بسمه الرسالة، وشعرت وكأنها تسمع صوته يهمس لها من بين السطور. لأول مرة منذ رحيله، لم تشعر بالحزن فقط، بل شعرت بنداء داخلي يدفعها للتحرك.
في صباح اليوم التالي، وقفت أمام والدتها وعيناها تحملان تصميماً جديدًا:
"سأحقق حلم أبي، سأفتح مكتبته."
تفاجأت والدتها، لكنها رأت في ابنتها شيئًا يشبه والدها تمامًا – الإصرار والعزيمة.
وهكذا، بدأت بسمه رحلتها في جمع الكتب، البحث عن مكان مناسب، والتخطيط لتحقيق حلم لم يكن فقط لوالدها، بل أصبح لها أيضًا. في كل خطوة تخطوها، كانت تشعر أن ظل والدها يحميها، يرشدها، ويفتخر بها.
وفي يوم الافتتاح، عندما وقفت أمام باب المكتبة التي حملت اسم والدها، لم تستطع منع دموعها من الانهمار. نظرت إلى السماء وهمست:
"لقد فعلتها يا أبي... أنت هنا معي
بعد افتتاح المكتبة، أصبحت حياة بسمه مختلفة تمامًا. كان المكان يعجّ بالزوار، من عشاق القراءة إلى الأطفال الذين يبحثون عن القصص، وحتى كبار السن الذين وجدوا في المكتبة ملاذًا هادئًا. كانت تشعر بالفخر، لكنها كانت تعلم أن هذا ليس سوى البداية.
اقرا ايضا توحيد القطرين ومراحل تأسيس الامة المصرية
اقرا ايضا فارس بلا جواد
في أحد الأيام، دخل رجل مسن إلى المكتبة، نظر حوله بإعجاب، ثم توجه إلى بسمه وسألها بابتسامة دافئة:
"من صاحب هذه المكتبة؟"
أجابت بسمه بفخر: "إنها تكريمًا لوالدي، كان يحلم بإنشائها لكنه رحل قبل أن يحقق ذلك."
ابتسم الرجل بحزن وقال: "والدك كان رجلاً رائعًا... لقد عرفته منذ سنوات. كان يتحدث دائمًا عن الكتب وكأنها أصدقاء، وعن حلمه في بناء مكان كهذا."
تفاجأت بسمه "أنت تعرفه؟"
أومأ الرجل برأسه وقال: "كنت أعمل معه، وكان دائمًا يحدثني عنك. كان يقول إنك ذكية وقوية، وإنه متأكد أنك ستفعلين شيئًا عظيمًا في حياتك."
شعرت بسمه بغصة في قلبها، لكنها ابتسمت. كان والدها حيًا في ذاكرة الناس، في أحاديثهم، وفي هذا المكان الذي أصبح رمزًا لحلمه.
في تلك الليلة، جلست بسمه على مكتبها في المكتبة، تتأمل رفوف الكتب المصفوفة بعناية. فتحت دفترًا صغيرًا، وكتبت في صفحته الأولى:
"أبي، لقد بدأت الحلم، وسأكمله حتى النهاية. لن يتوقف هذا المكان عند كونه مكتبة، بل سيكون مساحة للأحلام والقصص التي لا تموت."
وبينما أغلقت الدفتر، شعرت بنسمة هواء خفيفة تمر بجانبها، كأنها لمسة دافئة من والدها، تخبرها أنه فخور بها... دائمًا
مرت الأيام، وكبرت المكتبة وأصبحت أكثر من مجرد مكان للقراءة. نظمت بسمه فعاليات للأطفال، ولقاءات أدبية للشباب، بل حتى أمسيات شعرية لكبار السن. كل زاوية في المكتبة أصبحت تنبض بالحياة، وتحمل روح والدها الذي لطالما آمن بأن الكتب تجمع الناس كما تفعل الأحلام.
في أحد الأيام، وبينما كانت ترتب الكتب على الرفوف، وجدت رسالة أخرى مخبأة داخل أحد الكتب القديمة التي تخص والدها. هذه المرة، كانت الرسالة موجهة إليها مباشرة، وكتب فيها:
"ابنتي بسمه ، إن الحياة مليئة بالاختبارات، وقد يكون أكبرها هو الاستمرار حتى عندما نشعر بالضعف. لا تدعي أي شيء يوقفك، فأنا أؤمن بك كما كنتِ دائمًا تؤمنين بي."
شعرت بسمه بدموعها تنهمر على وجنتيها. في تلك اللحظة، أدركت أنها رغم فقدان والدها، لم تفقد إيمانه بها.
ولكن لم يكن كل شيء سهلاً. بعد أسابيع قليلة، تلقت إشعارًا رسميًا بأن المكان الذي استأجرته للمكتبة سيتم بيعه، وعليها إخلاؤه خلال ثلاثة أشهر. شعرت وكأن الحلم الذي بنته بدأ يتلاشى أمام عينيها.
في تلك الليلة، جلست في المكتبة وحدها، تحاول التفكير في حل. لكنها تذكرت كلمات والدها: "لا تدعي أي شيء يوقفك."
وفي صباح اليوم التالي، قررت أن تخوض معركتها. أطلقت حملة بين زوار المكتبة، ونشرت قصتها على وسائل التواصل الاجتماعي، وطلبت الدعم من المجتمع المحلي. لم تكن تتوقع الاستجابة الهائلة التي حصلت عليها. بدأ الناس يتبرعون، يعرضون المساعدة، ويقفون إلى جانبها لإنقاذ المكتبة.
وبفضل دعم الجميع، تمكنت بسمه من جمع ما يكفي لشراء المكان والحفاظ عليه. وعندما وقفت أمام المكتبة بعد توقيع العقد، نظرت إلى السماء مرة أخرى وقالت:
"لقد فعلتها يا أبي… حلمك باقٍ ولن يموت."
ومنذ ذلك اليوم، لم تعد المكتبة مجرد حلم لوالدها، بل أصبحت رمزًا للأمل، ولإرادة فتاة لم تستسلم أبدا
تعليقات
إرسال تعليق