الحلقة الثالثة : صرخة الرياح
كانت الرياح تحمل همسات لم تُسمع، وتهمس في زوايا المدينة كما تهمس الذكريات. طوال الحياة، كانت سلمى تشعر بأن الرياح تحمل معها شيئًا غامضًا. شيئًا لا تستطيع فهمه لكنها كانت تعرفه بداخلها. في كل مرة تعصف الرياح بالمكان، كانت تشعر بصوتها يطن في أذنيها وكأنها تلامس أعماق نفسها وتستحثها على العودة إلى الزمن الماضي.
سلمى كانت امرأة هادئة تعيش في قلب مدينة صاخبة. شكلت حياتها بعناية، ولم تترك مجالًا للمصادفات. اعتادت على ضبط الأمور حولها بشكل دقيق، وكان عقلها يسير بمقياس دقيق لا يعرف العشوائية. لكن دائمًا كان هناك شعور غير قابل للإنكار يسكن قلبها، شعور داخلي بأن الرياح كانت تشهد على شيء ما أكبر من خططها، أكبر من قدرة عقلها على تحليله.
في ليلة عاصفة، بينما كانت الرياح تصرخ خارج نافذتها، شعرت سلمى بشيء لا يُحتمل في قلبها. كانت الرياح تبدو متوحشة، لكنها في عمقها كانت تتسائل عن شيء ما، ربما كانت الرياح تساءل عن نفسها، وربما عن شئ آخر. تجمدت في مكانها، وكأن الرياح أصبحت جسرًا إلى الماضي الذي كانت قد دفنته بداخلها.
مرت سنوات، لكنها لا تزال تتذكر تلك اللحظة الأولى التي اقتنعت فيها بأنها قادرة على تجنب الجروح إذا حافظت على هدوء الأعاصير داخل روحها. لكن الرياح تلك الليلة، كانت تحمل معها هواءً مختلفًا، قاسيًا كأنها تحاول أن تحطم كل ما بنته. كانت تعصف بكل شيء حولها، وكلما ازدادت الرياح عنفًا، تزايدت ضربات قلبها.
فتحت النافذة، ودخلت الرياح بشكل مفاجئ، كما لو كانت تختطفها وتعود بها إلى الوراء، إلى الأيام التي لم تستطع الهروب منها. الذاكرة التي كانت سلمى قد زينت جدرانها ونثرتها بعناية خلف أقفال في قلبها، بدأت تفتح جراحات قديمة. رأت أمامها صورًا مشوهة للأحلام التي هدمتها الظروف.
كان أصدقاؤها وأحبتها يطلبون منها أن تبتسم، لكنها دائمًا كانت تُخفي وراء ابتسامتها تلك العواصف الداخلية التي تصفع وجهها كل يوم.
"كم أريد أن أصرخ"، قالت سلمى لنفسها، "كم أحتاج لتفريغ كل هذا من داخلي!" لكن كانت الرياح تهمس بحكمة لم تفهمها. في تلك اللحظة، فهمت ما كانت الرياح ترغب في أن تقوله. كانت ترمز لما كان مخفيًا في داخلها طوال سنوات، للقرارات التي تهربت من مواجهتها، للأحلام التي كُسرت على صخور التجربة، والذكريات التي هربت في الظلام خوفًا من الضوء.
مدت يدها باتجاه الرياح. وعندما لامس كفها هواء باردا، أدركت فجأة أن الرياح، على الرغم من قوتها وعنفها، كانت تقول لها: "لن يمكنك الهروب من الماضي، لكنك تستطيعين أن تسامحيه."
بدأت سلمى في التنفس بعمق. بدأت تلقي بكل صرخات أحلامها المكسورة في الرياح. أسفرت تلك اللحظات عن تحرير غير متوقع، عندما توقفت الرياح أخيرًا، كما لو أنها كانت تنتظر أن تفرغ قلبها.
ومنذ تلك اللحظة، بدأت سلمى تواجه الرياح كأنها صديقة، تعرف أنها تأتي لتخدعها أو تهدئها، لكنها لن تتوقف عن رفع الحواجز الداخلية التي كانت تبنيها بنفسها، لذلك قررت أن تسير مع الرياح، حيثما تأخذها، لأن الحقيقة الوحيدة كانت أنها بدأت تسكن في روحها، وفي هدوء تلك الرياح.
تعليقات
إرسال تعليق