بقلم/نشأت البسيوني
في بداية الحكاية التي يصنع فيها الانسان طريقه وحده وسط زحام الحياة يدرك ان الحفاظ على روحه اهم من الوصول السريع وان السير بخطوات ثابتة اكثر قيمة من القفز المتعجل لان كل خطوة لها اثر وكل موقف يترك علامة وكل كلمة قد ترفع انسانا او تكسره ولهذا كان جبر الخواطر هو الفعل الذي لا يعرفه الا اصحاب القلوب التي لم يفسدها العالم ولا ارهقها الجفاء وفي تفاصيل الايام
الاولى كان الانسان يتعلم ان الرحلة لا تحتاج ضجيجا ولا تحتاج سباقا مع احد بل تحتاج صبرا طويلا وفهما اعمق لان الطريق الحقيقي يبدا من الداخل لا من الخارج ومن القدرة على رؤية الذات كما هي دون تزييف ودون تجميل ومع مرور الايام تتكشف الحقائق التي لم يكن ينتبه لها من قبل فيرى ان اعمق العلاقات تبنى على كلمة طيبة وان اثقل الجراح قد تشفى بنظرة صادقة وان الانسان
مهما قوي يظل محتاجا لمن يفهمه دون شرح وينصت له دون ملل ويقف بجواره دون طلب لان الروح لا تتقوى وحدها بل تقوى بمن يمد لها يدا وقت الهشاشة دون ان يشعرها بالضعف ومع الوقت يتعرف الانسان على قيمة البساطة التي تغيب عن كثيرين ويكتشف ان الاشياء الحقيقية ليست التي نراها بالعين ولكن التي نشعر بها في الداخل وان ما يقال من القلب يصل الى القلب وان كان بلا
ترتيب وان كان بلا صياغة متقنة وتطول المسافة بين البداية ومنتصف الرحلة ويزداد معها وعي الانسان بنفسه وبمن حوله فيبدا في فهم التفاصيل الصغيرة التي كان يمر عليها مرورا عابرا فيعرف ان بعض القلوب تاتي لتعلمه وان بعض الاحداث تاتي لترفعة وان بعض الخذلان ياتي ليحميه وان ليس كل ما يفقده خسارة وليس كل ما يكسبه مكسبا فالميزان الحقيقي هو اثر الاشياء في داخله لا
شكلها الخارجي ومع كل خطوة جديدة يعيد الانسان قراءة ما مر به ويكتشف ان الاشياء التي ظن انها نهايات لم تكن سوى بدايات مختلفة وان الاماكن التي تعب فيها كانت تمهيدا للوصول الى اماكن اوسع واكثر رحابة وهنا يصبح جبر الخواطر ليس مجرد فعل طيب بل يصبح مبدأ حياة لان الانسان الذي يدرك قيمة الشعور يعرف ان كلمة بسيطة قد تعيد توازنه وان ابتسامة قد تمسح وجع يوم كامل
وان شعور الاهتمام الحقيقي قد يغير نظرته للعالم وان القلوب التي تعطي دون انتظار مقابل هي القلوب التي لا تنكسر مهما اشتدت عليها الظروف وتصبح تلك القلوب مثل الضوء الذي لا يراه الجميع لكنه يصل في اللحظة المناسبة الى الشخص المناسب ليعيد اليه ما ظنه قد ضاع منه ويجعله يقف على قدميه مرة اخرى دون ان يشعر بانه وحده وفي طريق استمرار الحكاية التي لا يراها الناس
كما هي تبرز تلك التفاصيل الصغيرة التي تصنع مساحة واسعة من الفهم وتشكل ملامح العلاقة بين الانسان ونفسه وبين الانسان والاخرين فهناك لحظات يظن فيها البعض ان التعب سبب كاف للتراجع بينما الحقيقة ان وراء كل خطوة استمرار نبع صامت من قوة لا يعترف بها صاحبها الا عندما ينظر خلفه ويرى كم تحمل وكم صمد وكم تجاوز دون ان يلتفت لتشجيع او لكلمات تمدحه لانه كان
يسير بدافع داخلي لا يمل ولا يطلب مكافاة ولا ينتظر تصفيق احد ولان هذا الدافع يخرج من مكان صادق فانه لا يزول ولا ينطفئ مهما تبدلت الظروف وتظل الايام تراهن على قدرته في الوقوف من جديد بعد كل سقوط فتتشكل داخله طبقة جديدة من الوعي تجعله يرى العالم بعين ثانية ليست اشد قسوة ولكنها اكثر فهما فلا شيء يبقى في مكانه كما هو فحتى القلب يتغير ويتعلم ويتسع
ويعرف ان مشاعر الناس ليست واحدة وان بعض الوجوه وان بدت قريبة فهي بعيدة وان القرب الحقيقي لا يقاس بالكلمات ولا بالحديث الكثير بل يقاس بالفعل الذي يبرهن على النية ومع كل تجربة جديدة يكتشف الانسان ان الصراحة ليست دائما صوتا مسموعا بل هي فعل يثبت نفسه وان الحب ليس كلاما بل موقف وان الوفاء لا يقال بل يمارس وتستمر الحياة في كشف طبقاتها
وتتواصل الايام في تشكيل الصور التي لا يفهمها الانسان الا عندما يدرك ان الهدوء ليس ضعفا وان الصمت ليس عجزا وان التراجع في بعض الاحيان ليس هروبا بل احتراما لذاته وان المواجهة ليست دائما الحل فهناك لحظات يكون فيها الانسحاب قوة وهناك مواقف يثبت فيها السكون حكمة اكثر من الكلام وفي تلك اللحظات بالتحديد يعرف الانسان ان جبر الخواطر لا يخص الاخرين فقط بل
يخصه هو ايضا لانه محتاج ان يجبر نفسه من الداخل قبل ان يجبر غيره ومع اتساع خطوات الرحلة يتعلم الانسان ان جبر الخواطر باب واسع لا يطرقه الا اصحاب النفوس التي لم تتلوث بالصخب وان الفعل الصغير قد يحمي روحا كاملة من الانكسار وان الانسان مهما كان قويا يظل يحتاج الى اشارة تقول له انه مرئي وان وجعه ليس خفيا وان قلبه ليس وحده وان صمته مفهوم وان تعبه
مسموع وان هناك دوما من يشعر به ولو من بعيد وفي هذا الفهم يكمن جمال الانسانية الحقيقي لان اللحظة التي يشعر فيها الانسان ان احدا راه كما هو دون تزييف هي اللحظة التي يبدا فيها بالعودة الى نفسه ويصل الانسان في النهاية الى يقين لا يتغير وهو ان كل ما مر به من انكسار كان طريقا لفهم اعمق وان كل باب اغلق امامه كان بداية باب اخر وان كل الم علمه درسا لا ينسى وان الرحلة التي
بداها ضعيفا انتهت به اكثر ثباتا وان القلب الذي كان يظنه هشا اصبح اليوم اقوى مما تخيل لانه تعلم ان جبر الخواطر يعود عليه قبل الاخرين وان الكلمة التي يمنحها قد تكون في يوم من الايام سببا لنجاته هو وان اللحظة التي يعطي فيها دون ان ينتظر مقابل هي اللحظة التي يكتشف فيها الجزء الاجمل من نفسه وهكذا ينتهي الطريق الذي بدا طويلا وينتهي معه هذا المقال الذي بدا يبحث في
معنى القوة التي لا تصرخ وفي جمال الفعل الذي لا يرى وفي قيمة الكلمة التي ترفع الروح وفي اثر الجبر الذي يرمم الشقوق الخفية ليترك الانسان في نهاية رحلته واقفا ثابتا مؤمنا بان القلب الذي لا ينكسر هو القلب الذي يجبر غيره دائما وان الانسان كلما اعطى طيبة اكثر عاد اليه نورها اكثر وان ما يبقى في الذاكرة هو الاثر لا الكلام وان الرحلة مهما طالت فان نهايتها الحقيقية تكون دائما في الداخل حيث يسكن السلام الذي
لا يصنعه احد الا الانسان نفسه

تعليقات
إرسال تعليق