القائمة الرئيسية

الصفحات

الجرائم البيئية بين قصور العقوبات والتشريع وضرورة التخصص القضائي



بقلم : الدكتور أحمد صفوت السنباطي بمحكمة النقض 


تشكل الجرائم البيئية تهديداً وجودياً للإنسانية جمعاء في العصر الحديث، حيث لم تعد هذه الجرائم مجرد انتهاكات فردية محدودة الأثر، بل تحولت إلى اعتداءات منهجية تهدد النظم البيئية بأكملها وتقوض أسس الحياة على كوكب الأرض ورغم خطورة هذه الجرائم وتزايد معدلاتها بشكل مطرد، إلا أن الأنظمة القانونية في معظم دول العالم لا تزال تعاني من قصور كبير في مواجهتها، سواء على مستوى التشريعات العقابية أو على مستوى الجهاز القضائي المختص بنظرها فالعقوبات المفروضة على الجرائم البيئية في غالبية التشريعات لا تتناسب البتة مع حجم الضرر الناتج عنها، كما أن القضاء العادي يفتقر إلى التخصص اللازم لفهم تعقيدات القضايا البيئية وتداعياتها بعيدة المدى.

تمتاز الجرائم البيئية بطبيعة خاصة تجعلها تختلف جوهرياً عن الجرائم التقليدية، فهي جرائم مركبة يصعب إثباتها، وغالباً ما تكون النتيجة الإجرامية متراخية في الزمن، بمعنى أن الضرر قد يظهر بعد سنوات طويلة من الفعل الإجرامي كما أن هذه الجرائم تتسم بطابع تقني عالي التعقيد، يتطلب فهماً متخصصاً في مجالات علمية دقيقة مثل الكيمياء والبيولوجيا والهندسة والمناخ هذا التعقيد التقني يشكل تحدياً كبيراً للقاضي العادي الذي يفتقر إلى الخبرة المتخصصة في المجال البيئي، مما يؤدي في كثير من الأحيان إلى أحكام لا تراعي الأبعاد الحقيقية للجريمة البيئية ولا تضع في اعتبارها التداعيات المستقبلية للضرر البيئي.

من ناحية أخرى، تظهر إشكالية جسيمة في عدم تناسب العقوبات مع جسامة الجرائم البيئية، فمعظم التشريعات تتعامل مع الجرائم البيئية من منظور جنائي تقليدي، مفترضة أن عقوبات الغرامات البسيطة والحبس لفترات محدودة كفيلة بالردع لكن الحقيقة أن الضرر الناتج عن الجرائم البيئية غالباً ما يكون غير قابل للإصلاح، ويكلف الدول مليارات الدولارات على مدى عقود طويلة فكيف يمكن لغرامة مالية محدودة أن توازن بين دمار نظام بيئي كامل؟ وكيف يمكن لعقوبة الحبس لبضعة أشهر أن تردع عن جريمة تؤدي إلى تلوث مصدر مائي يستخدمه الملايين؟ هذا التفاوت الصارخ بين الجسامة الحقيقية للجريمة والعقوبة المقررة لها يشكل إهانة للعدالة ويشجع على الاستمرار في انتهاك البيئة.

كما أن طبيعة الجناة في الجرائم البيئية تختلف عن الجناة في الجرائم التقليدية، فغالباً ما يكون الجناة من كبار رجال الأعمال والشركات متعددة الجنسيات التي تمتلك إمكانيات مالية وقانونية هائلة وتحويل الدعاوى القضائية لسنوات طويلة والالتفاف على الأحكام باستخدام ثغرات قانونية هذه القوة غير المتكافئة بين الطرفين تجعل الملاحقة القضائية للجرائم البيئية أشبه بمعركة خاسرة مسبقاً، خاصة في ظل عدم وجود قضاء متخصص قادر على مواجهة هذه التعقيدات القانونية والمالية.

إشكالية أخرى لا تقل خطورة تتمثل في صعوبة إثبات الجرائم البيئية، ففي كثير من الحالات، تكون الأدلة العلمية معقدة وتتطلب خبرات فنية عالية المستوى، كما أن ربط الضرر البيئي بالفعل الإجرامي مباشرة يحتاج إلى دراسات علمية مكلفة وتستغرق وقتاً طويلاً هذا العبء الإثباتي الثقيل يقع في الغالب على عاتق النيابة العامة التي تفتقر بدورها إلى الإمكانيات الفنية والقدرات المالية اللازمة لمواجهة الجناة الأقوياء.

 

 

 

 

في مواجهة هذه التحديات الجسيمة، يبرز الاتجاه نحو إنشاء قضاء بيئي متخصص كحل ضروري لا غنى عنه فالقضاء المتخصص يمكنه تجميع الخبرات القانونية والعلمية في هيئة قضائية واحدة، مما يمكنها من فهم تعقيدات القضايا البيئية وتقدير الأدلة الفنية تقديراً سليماً كما أن إنشاء محاكم بيئية متخصصة يسمح بتطوير إجراءات قضائية ملائمة للطبيعة الخاصة للجرائم البيئية، مثل تبسيط إجراءات الإثبات، وتوسيع نطاق المسؤولية، وإعادة تعريف مفهوم الضرر البيئي ليشمل الأضرار المستقبلية والمحتملة.

كذلك، يتطلب الأمر تطوير نظام عقابي مبتكر يتناسب مع طبيعة الجرائم البيئية وجسامتها، فلا يمكن الاكتفاء بالعقوبات التقليدية من غرامات وحبس، بل يجب إدخال عقوبات جديدة مثل مصادرة الأرباح غير المشروعة، وإلزام الجناة بتمويل مشاريع إعادة التأهيل البيئي، ومنعهم من ممارسة الأنشطة الاقتصادية ذات الصلة، ونشر أحكام الإدانة بشكل واسع لتشويه السمعة التجارية للجناة كما أن تطبيق مبدأ "الملوث يدفع" يمكن أن يشكل رادعاً فعالاً للشركات الكبرى التي تعتبر الغرامات المالية البسيطة مجرد تكلفة عمل عادية.

من الضروري أيضاً تطوير مفهوم المسؤولية الجنائية في الجرائم البيئية ليشمل المسؤولية المفترضة والمسؤولية المشتركة، حيث يصعب في كثير من الأحيان تحديد المسؤول المباشر عن الضرر البيئي بدقة كما أن إدخال مفهوم الجريمة المستمرة على الجرائم البيئية يمكن أن يساعد في تجاوز مشكلة التقادم، نظراً لاستمرار الضرر البيئي لسنوات طويلة.

في الختام، يمكن القول إن مواجهة الجرائم البيئية تتطلب نهجاً شاملاً يجمع بين تطوير التشريعات العقابية وإنشاء جهاز قضائي متخصص فالعقوبات الحالية لم تعد كافية لردع الجناة، والقضاء العادي لم يعد قادراً على فهم تعقيدات القضايا البيئية إن إنشاء محاكم بيئية متخصصة، إلى جانب تطوير نظام عقابي مبتكر ورادع، لم يعد رفاهية قانونية، بل أصبح ضرورة حتمية لمواجهة واحدة من أخطر التحديات التي تواجه البشرية في العصر الحالي حماية البيئة ليست مجرد قضية قانونية، بل هي قضية وجودية تتعلق بمستقبل الحياة على كوكب الأرض، والعدالة البيئية ليست ترفاً فقهياً، بل هي ركن أساسي من أركان العدالة الاجتماعية وال

تنمية المستدامة

تعليقات