القائمة الرئيسية

الصفحات

علم النفس التعليمي… الطريق الآمن لاقتلاع جذور العنف ضد المرأة وترسيخ قيم مجتمع متوازن


بقلم: الدكتورة عفاف البديوي

أستاذ مساعد علم النفس التعليمي – جامعة الأزهر

يحتل علم النفس التعليمي مساحة مركزية في بناء الإنسان وفي صياغة الخطوط الأولى لشخصيته وقيمه وتوجهاته. فهو ليس مجرد مجال أكاديمي يبحث في طرق التدريس وتحسين التحصيل، بل هو علم يتعامل مع تكوين الوعي منذ لحظاته المبكرة، ويعمل على تشكيل منظومة متكاملة من القيم والاتجاهات التي تُسهم في ترسيخ مجتمع أكثر توازناً وإنصافاً. ومن أكثر القضايا التي يبرز فيها دوره قضية العنف ضد المرأة، تلك الظاهرة التي تتجاوز كونها مشكلة اجتماعية لتصبح منعطفاً خطيراً في مسار التنمية والاستقرار الأسري والنفسي.

يتشكل العنف ضد المرأة عادةً من جذور تربوية وثقافية تمتد إلى سنوات الطفولة، حين يتعلم الطفل أن يقيّم الآخر بناءً على النوع، أو أن يمارس السيطرة بوصفها حقاً مكتسباً، أو أن يعتقد أن القوة طريق لحل المشكلات. وهنا يظهر دور علم النفس التعليمي في معالجة هذه الجذور قبل أن تمتد وتتكاثف، إذ يعمل على كشف الآليات التي يتعلم بها الفرد سلوكياته واتجاهاته، وعلى فهم الطريقة التي تتكون بها رؤيته لنفسه وللآخرين، مما يتيح الفرصة لتدخل تربوي مبكر يمنع تشكل العنف في الأساس.

إن البيئة التعليمية التي تُدار وفق مبادئ علم النفس يمكن أن تتحول إلى فضاء لتعزيز قيم المساواة والاحترام المتبادل. فالطفل الذي يعتاد على رؤية المعاملة العادلة، وعلى المشاركة دون تمييز، تتكون لديه قناعة راسخة بأن المرأة شريك كامل في الحياة، وأن الاعتداء عليها أو التقليل من شأنها لا ينسجم مع المبادئ الإنسانية التي تربّى عليها. كما أن الأنشطة التعليمية التي تُبنى بطريقة تراعي الفروق الفردية، وتُشجع على التعاون، وتُقدّر التعبير الانفعالي السليم، تسهم في تخفيف التوترات الداخلية وتحد من الميل إلى السلوك العدواني.

ويسهم علم النفس التعليمي أيضاً في تطوير مهارات التعامل مع الانفعالات، وتعلم طرق بديلة لحل المشكلات بعيداً عن العنف. فالفرد الذي يمتلك قدرة على فهم مشاعره وضبطها، وعلى التواصل بوضوح واحترام، يصبح أقل عرضة للجوء إلى القوة في علاقاته مع الآخرين، بما في ذلك علاقته بالمرأة. ويُعد تمكين الفتيات داخل المدرسة جانباً مهماً من هذا الدور، إذ يمنحهن العلم الثقة بالنفس، ويكسبهن القدرة على المشاركة والتعبير، مما يخلق علاقة أكثر توازناً بين الجنسين ويحد من قابلية التعرض للعنف أو قبوله.

ويمتد أثر علم النفس التعليمي إلى تدريب المعلمين وتوعيتهم، لأنهم يشكلون القدوة الأولى خارج نطاق الأسرة. فالمعلم القادر على اكتشاف السلوكيات العدوانية لدى الطلاب، وعلى احتوائها بطرق تربوية فعّالة، يسهم في منع تطورها لاحقاً إلى أنماط أكثر خطورة. كما أن تواصله مع أولياء الأمور يساعد في بناء جسر تربوي يصحح المعتقدات الخاطئة حول دور المرأة ومكانتها، ويخلق بيئة أسرية أكثر دعماً واستقراراً.

ولا يمكن إغفال الدور المجتمعي لهذا العلم، فهو يشكل أساساً لتقدم أي مجتمع يطمح إلى الارتقاء. فحين تتأسس العملية التعليمية على فهم علمي دقيق لطبيعة التعلم، تتشكل أجيال قادرة على التفكير النقدي، وعلى احترام الذات والآخر، وعلى اتخاذ القرارات بعيداً عن الانفعالات المشوهة أو التحيزات الضارة. ويصبح المجتمع أكثر توازناً، وأكثر قدرة على مواجهة ظواهر العنف والتمييز، لأنه يستند إلى بنية نفسية صحية لا تقبل الظلم ولا تعتبره سلوكاً عادياً.

إن مواجهة العنف ضد المرأة ليست مسؤولية القوانين وحدها، وإن كانت القوانين ضرورة لا غنى عنها، لكنها مسؤولية تبدأ من الوعي، ومن التربية، ومن المدرسة التي يتشكل فيها عقل الإنسان للمرة الأولى. وعندما يُدرك المجتمع أهمية علم النفس التعليمي ويدعم تطبيقه داخل المؤسسات التعليمية، فإنه يضع الأساس لعلاقات إنسانية أكثر احتراماً وتوازناً، ويضمن مستقبلاً تتحرر فيه المرأة من دوائر العنف، ويزدهر فيه المجتمع بفضل إنسانه الذي تربّى على الفهم لا على التسلط، وعلى الحوار لا على الإقصاء، وعلى الأخلاق لا ع

لى العنف.

تعليقات