بقلم/نشأت البسيوني
هناك لحظة غريبة
حين نكتشف أننا لم نعد ننتمي إلى الأمكنة التي أحببناها
ولا إلى الوجوه التي كانت لنا يوما وطنا
فنلجأ إلى ما تبقى لنا من الذكريات
نحتمي بها كما يحتمي الغريب بصوت يعرفه في مدينة لا يعرفها
حين تصبح الذكريات وطنا آخر
تأخذنا الحنين إلى حيث كنا بخير
إلى ضحكات لم ندرك وقتها كم كانت ثمينة
إلى عيون صدقتنا وقلوب احتوتنا دون مقابل
إلى لحظات صغيرة لم ننتبه لجمالها إلا حين صارت ماضٍ بعيد
نقلب الصور القديمة كأننا نعيد الحياة لما مات
ونصغي إلى الأغاني القديمة كأنها تعيدنا إلى أنفسنا التي كانت
الذكريات لا تموت يا صديقي
هي تبقى عالقة في زوايا القلب
تتنفس كلما اشتدت الوحدة
وتنطفئ كلما أرهقها الحنين
هي الوطن الذي لا يغلق أبوابه
والحضن الذي لا يرفض العائدين
حتى وإن جئنا إليه مثقلين بالخذلان
يستقبلنا كما نحن بلا حكم ولا عتاب
حين تصبح الذكريات وطنا آخر
ندرك أن ما فقدناه لم يكن أشخاصا فقط
بل أنفسنا التي كانت معهم
ضحكتنا الصادقة وعفويتنا الأولى
تلك النسخة النقية منا التي لم تعرف الخوف ولا الخيبة
فنشتاق لأنفسنا بقدر ما نشتاق لهم
ونتمنى لو يعود الوقت قليلا
فنعانق اللحظة بدلا من أن نؤجلها
لكن يا صديقي
الذكريات لا تُعاد
هي تزهر في القلب كلما ضاق العالم
لتذكرنا أننا كنا أحياء
وأن ما مضى لم يكن عبثا
بل فصولا من رواية كتبت لنكبر لنفهم لنشفى
حين تصبح الذكريات وطنا آخر
لا نحزن كما كنا
بل نبتسم برفق
نغلق أعيننا ونسير بين أزقتها بأمان
نتأمل ما كان ونشكر الله على ما بقي
فنحن أبناء الأمس كما نحن أبناء اليوم
وكل ما مر بنا صار جزءا منا
وفي النهاية
حين تصبح الذكريات وطنا آخر
نتعلم أن الوطن الحقيقي ليس مكانا
بل شعور
وأن الذين أحببناهم ما زالوا يسكنوننا
حتى وإن غابوا
فبعض الحضور لا يحتاج جسدا
يكفي أن يبقى أثره
كي يظل القلب عامرا بالحنين إلى ما كان

تعليقات
إرسال تعليق