لو تعلّمتُ التافهة من القول والفعل، لانهمرت عليّ الأضواء، ولو لبستُ قناع المكر، لجلستُ في صدر المجالس مُصفَّقًا لي، فالأفهام اليوم لا تغوص بحثًا عن الجوهر، بل تُفتن بوميض البهرج، وتُساق خلفه كالعميان.
مجتمعٌ بات يفتح صدره لمن يُزيّف النوايا، ويغلق أبوابه أمام من جاء بقلبٍ نقيٍّ، ونيةٍ سليمةٍ لا تعرف الالتواء.
زمنٌ تُزهى فيه التفاهة، وتُقصى فيه الكرامة ،تتراقص القلوب حول قشور الأمور، تُباع الأخلاق كما تُباع السلع، بلا وزنٍ أو معنى، ويُتهم الطيب بالخداع، وكأن النقاء جرمٌ ينبغي مداراته، وكأن الصدق عورة، تُخجل صاحبها إن أظهرها.
التمسُّك بالمبدأ صار ضربًا من الغرابة، تغريبٌ في الوطن، تغريبٌ في اللغة، تغريبٌ في الصمت، وفي الصداقة، وفي الإنسانية، وفي كل ما كان يومًا مُشتركًا.
الطيّب يُستغل ويُهان، يُعدّ غبيًا لأنه لا يتقن المكر،
ولا يُجيد خُدع الكلام، ولا يعرف لغة الأقنعة المتبدّلة،
يمشي وسط البشر كما لو أنه يسير في غابةٍ من الوحوش،
يلتفُّ حوله الجرح، وتطارده خناجر الواقع، لكنه لا يكفّ عن احتضان الأمل، ولا يملّ من مطاردة النور.
يا حسرةً على زمنٍ اختلطت فيه الوجوه بالأقنعة .
زمنٌ صار القبيح فيه قدوة، وصار الجمال يُساء فهمه، يُتهم بالغرابة، وإن طالب بالحق، قيل له: هذا ليس وقت الشرف، بل وقت البراغماتية والركوع للواقع.
صرنا نُصفّق لمن يُتقن بيع الوهم، ونُقصي من يهدي الحقيقة، لأنها تُربك الكذب وتفضحه، نُعلي من جعل الكذب فنّا، ونُسكت من يجاهر بالحب، وبالكرامة، وبالوفاء، كأنّ القيم باتت تُخجل أصحابها، لكن، ورغم هذا الزمان المتقلّب، ستبقى الطيبة نارًا لا تُطفأ، ستبقى الفضيلة نبضًا يُقاوم السقوط، يكفينا أن نظل مرآةً نقيّة في بحرٍ يعجّ بالزيف، أن نُحافظ على شرف نوايانا، وإن شُوّهت صور الحق، أن نكون غرباء في انتصارنا للحق، فهذا شرف الغربة.
تعليقات
إرسال تعليق