القائمة الرئيسية

الصفحات

متى نتعقل 
تأملات في العقل ، الغفلة والغاية من الوجود.
في خضمّ الحياة، حين تزدحم الأصوات وتتعدد المغريات، يلوح سؤال جادّ في الأفق لا يُغفل ولا يُؤجّل: متى نتعقّل؟ متى ندرك أن هذه الدنيا ليست دار قرار، بل دار ابتلاء وامتحان، وأن البقاء الحقيقي هو للآخرة، حيث الجزاء والغاية؟ إن الإنسان لا يُخلق عبثًا، بل لغاية سامية، عبادةُ الله جلّ وعلا. غير أن أكثر الناس غفلوا عن هذه الحقيقة، فانشغلوا بزينة الدنيا، وركضوا خلف ملذّاتها، وكأنهم خالدون فيها.
وهبنا الله العقل نعمة عظيمة، وبه نُفكّر ونُميّز ونتدبّر، وهو الأداة التي تُرشِد الإنسان نحو الصواب وترتفع به عن منزلة الغريزة. لكن هل أحسنا استخدام هذه النعمة؟ أم أننا أطلقنا العنان لأهوائنا، فجعلنا العقل تابعًا لا قائدًا؟ حين يُهمل الإنسان عقله، يصبح ضحيةً للجهل والتقليد، ويعيش أسيرًا للنزوات دون بصيرة، فيغيب عن جوهر الوجود ومعنى التكليف، ويضيع عمره في لهوٍ لا طائل منه.
الغفلة ليست مجرد نسيان للموت، بل هي تغافل عن الغاية، عن الحق، عن حساب آت لا محالة. الغافل لا يفكر، لا يراجع، لا يُصلي بقلب حي، ولا يسأل نفسه: لماذا خُلق؟ وإلى أين يسير؟ ومن الغفلة تنشأ المفاسد في الأفراد والمجتمعات، وتكثر الفتن، وتنهار منظومة الأخلاق، ويضيع الوطن حين يفقد أبناءه البصيرة.
الإنسان كائنٌ متعدّد الطبائع: فيه عقل وروح وجسد، وفيه شهوات وغرائز، لكن الفرق بينه وبين الحيوان أن له قدرة على التهذيب والاختيار. فحين يُسيطر الجانب الغريزي على الإنسان، يصبح أقرب إلى البهيمية، وحين يضبطه بالإيمان والعقل، يسمو ويصبح خليفة في الأرض. الدين جاء ليهذب، لا ليقمع، ليقود الإنسان نحو الاكتمال لا الاستسلام، وليُعيد التوازن بين الفطرة والعقل، فلا يُلغى الجسد ولا يُهمّش الروح.
أول الطريق نحو التعقل هو الفهم الحقيقي للدين، فهم يثمر سلوكًا، ويُنبت وعيًا، ويقود إلى الإصلاح. ثم يأتي طلب العلم، فهو النور الذي يكشف الجهل، ويحصّن النفس من الانحراف. ومراجعة الذات هي المرآة التي تكشف مدى التوافق بين الظاهر والباطن، بين القول والفعل. وأخيرًا، التوبة والتزكية ليست مرحلة متأخرة، بل بداية تُجدد الروح وتُعيد ترتيب الأولويات.
حين يتعقّل الإنسان، يُدرك موقعه، ويستثمر عمره، ويُنمي مجتمعه. يصبح أكثر سكينة، أكثر إنتاجًا، أكثر قربًا من الحقيقة. التعقّل ليس رفاهية فكرية، بل فريضة وجودية. وبه فقط يعبر الإنسان من ظلام التيه إلى نور اليقين، ومن فوضى الأهواء إلى سكينة الطاعة.
إن هذه الدنيا، مهما زُيّنت، ستبقى دار فناء، يغلب عليها التعب والماديات والفتن. وما السعادة إلا في طاعة الله، وما راحة القلب والعقل إلا في إدراك الغاية التي خُلقنا من أجلها. فلنتعقّل قبل أن يُقال: "فات الأوان"، فلعلنا نكون من الفائزين، لا من النادمين.
بقلم الأستاذة خديجة آلاء شريف 

تعليقات