القائمة الرئيسية

الصفحات

الأخذ والعطاء
جدلية الأسبقية بين حاجات الذات وواجبات الروح.
إن الله خلقنا وسخّر لنا من نعمه، ومنحنا من فضله وجودًا ممتلئًا بالعطاء. فهو المعطي الأول والآخر، يعطينا بلا انقطاع، ويغمرنا بجوده دون أن ينتظر مقابلًا، لأنه غنيٌّ عنا ونحن الفقراء إليه، وهو الذي لا يعجزه شيء.
ومن تأمّل في هذا الفيض الإلهي، أدرك أن فضيلة العطاء إنما هي أثر من آثار أسماء الله وصفاته، قد أودعها فينا لنكون في هذه الحياة أداة خير وسببًا للنفع. فالله خلق لنا اليد التي تمتد لتمد يدًا أخرى، وتعين، وتواسي، وتزرع الرحمة في قلوب الناس، كما خلق فينا القلب الذي ينبض حبًا، والعقل الذي يميز، واللسان الذي ينطق بالخير.
العطاء ليس حكرًا على المال والامتلاك، بل هو اتساع في الروح، وبذل في الشعور، وهو أن تمنح غيرك ما يحتاجه ولو كان بسيطًا. فالكلمة الطيبة صدقة، والابتسامة صدقة، والدعاء عطاء، والنصيحة التي تحفظ إنسانًا من ضياع هي من أعظم أوجه العطاء، وكذلك العلم حين يُنقل بصدق ومحبة، هو من أبهى صور العطاء.
ومن أجمل ما يغرسه الإنسان في حياته أن يعيش بفكرة أن ما يقدمه للناس من خير، إنما هو طريق للرضا الإلهي، لأن من ينفع الناس ينفع نفسه، ومن يزرع الحب يجني نورًا، ومن يعطي من قلبه يجد السلام في قلبه قبل أن يصل للآخرين.
وطالب العلم خصوصًا، مهما كانت صفته، يجب أن يدرك أن الأخذ والعطاء وجهان لمعنى واحد. فالأخذ من العلم واجب لتزكية العقل، لكن العطاء به واجب لتزكية الأمة. فالعالم يُسأل عن علمه، والمعلم يُسأل عن طلابه، والمتعلم يُسأل عمّا فعل بما علم، وهل جعله في خدمة الناس أو اكتفى به لنفسه. فكلما أخذت علمًا، وجب عليك أن تنفع به، وتبني به، وتعلّم، وتُرشد، وتكون حلقة من حلقات النفع المتواصلة.
حين نعطي بصدق، لا ننتظر مقابلًا، لأن الجزاء عند الله، وهو الذي لا يضيع أجر المحسنين. وكل كلمة، كل موقف، كل دعم معنوي أو مادي، كل لحظة صبر أو مشاركة، هي في ميزان الله أجر مضاعف. والعطاء لا يُنقص مما عند الإنسان، بل يزيده بركة، ويقرّبه من الخالق، ويجعله إنسانًا مؤثرًا في حياة الآخرين.
وما أجمل أن نعيش ونحن نردد في أعماقنا أن الخير لا يُنتظر له الشكر، ولا يُطلب له الجزاء، بل هو طاعة وتعبّد، وامتثال لصفات الله التي أراد لنا أن نتخلق بها، وأن نتقرب إليه بها.
ابذر الخير في كل مكان، لا تتوقف عن منح الناس ما يحتاجونه من مشاعر، كلمات، علم، دعم، ولا تنشغل برؤية الأثر، فالله كفيل أن يجازيك ويضاعف لك الأجر. وإن مضيت في طريقك، سيبقى عطاؤك خلفك، يُثمر في قلوب الناس، ويبعث الحياة في من مروا بك ذات يوم.
بقلم الأستاذة خديجة آلاء شريف 

تعليقات