مقدمة:
ليس الفكر السوسيولوجي مجرد انعكاس نظري محايد للواقع، بل هو ابن لحظة حضارية، وابن لأسئلتها ومآزقها. وهكذا، فإن تباين المقاربات السوسيولوجية الكبرى – من البنيوية الفرنسية إلى الفعلانية الألمانية – لا يعكس فقط تنوعًا في الرؤى العلمية، بل اختلافًا عميقًا في الخلفيات الثقافية، والرهانات الإيديولوجية، والأنساق السياسية التي نشأت داخلها هذه النظريات.
هذا المقال يقترح تحليلًا مركبًا يربط بين نشأة فكرة البنيات اللاشعورية في السوسيولوجيا الفرنسية, واعتبار الظواهر الاجتماعية ذات طابع إلزامي، مقابل الطرح الفيبري الذي يُعيد للفاعل حريته وإرادته، ويُفسّر الفعل من داخله. ثم نقف عند محاولات الجمع بين هذين القطبين، داخل ما يُعرف اليوم بالمقاربات المركبة، وخاصة مع بورديو.
أولًا: البنيوية الفرنسية وشبح النظام الشمولي
ظهر الفكر البنيوي الفرنسي في لحظة كان فيها النظام السياسي الفرنسي، والنظام المعرفي، يسعيان نحو الانضباط، والتحكم، والترتيب. فبعد الحرب العالمية الثانية، ومع صدمة التمدن، والتوسع الرأسمالي، والقلق من الفوضى، حاولت السوسيولوجيا أن تؤسس لنفسها شرعية علمية تُضاهي العلوم الطبيعية، بتقديم المجتمع كنسق من القوانين الصارمة.
1. دوركايم: الظاهرة الاجتماعية كشيء
في كتابه التأسيسي "قواعد المنهج في علم الاجتماع"، قال دوركايم:
"يجب أن ندرس الظواهر الاجتماعية كما ندرس الأشياء فيزيائيًا".
وهذا يعني إخراج الذاتية والنية والوعي من التحليل، وتعويضها بالملاحظة الموضوعية، والقياس، والتجريب. الظاهرة الاجتماعية – حسب دوركايم – تتمتع بطابع إلزامي قهري؛ فهي تُمارس على الأفراد من الخارج، وتتحكم فيهم حتى دون وعيهم.
مثال: الانتحار، رغم أنه يبدو فعلًا فرديًا، فهو حسب دوركايم ظاهرة اجتماعية تُحددها عوامل مثل الاندماج الديني، أو الانتماء الأسري.
ثانيًا: بورديو وتوسيع مفهوم البنية نحو الهابيتوس
بيير بورديو لم يخرج من عباءة دوركايم، لكنه أضاف إليها طابعًا نفسيًا ثقافيًا عميقًا. فالظاهرة عنده لا تُمارس على الأفراد من الخارج فقط، بل تُغرس فيهم من الداخل عبر ما أسماه بـ"الهابيتوس"، أي بنية لاشعورية من التصورات، والميول، والأحكام، والتمثلات.
الفاعل عند بورديو لا يفعل لأنه يريد، بل لأنه مُهيكل مسبقًا ليقوم بالفعل؛ بطريقة تجعل الفعل يبدو طبيعيًا في حين أنه مشبع بإكراهات اجتماعية داخلية.
مثال؛ تلميذ من طبقة شعبية لا ينجح في الجامعة لأن الهابيتوس المدرسي لا يتوافق مع تجربته المنزلية، وليس لأنه غير ذكي.
ثالثًا: فيبر وإعادة الاعتبار للفاعل الحُرّ
ماكس فيبر، الذي عاش في سياق مختلف تمامًا – ألمانيا المهزومة، والممزقة، والتي تبحث عن ذاتها – كان يرى أن علم الاجتماع لا يُمكن أن يكتفي بتفسير الظواهر كأشياء، بل يجب أن يفهمها من داخل الفاعل، ومن خلال المعنى الذي يعطيه لأفعاله.
فيبر أسس لمقاربة فهمية ، تعترف بأن الفرد فاعل، يُخطط، ويقارن، ويمنح معنى لأفعاله. وبالتالي، فالسلوك ليس نتيجة حتميات اجتماعية، بل هو مشروع ذاتي يُعبّر عن نية ومعنى.
مثال: الموظف الذي يرفض الرشوة، لا لأنه خائف من القانون، بل لأنه يملك تصورًا أخلاقيًا للوظيفة العمومية.
رابعًا: الخلفيات السياسية والثقافية للنظريتين
أ) فرنسا: الحاجة إلى النظام والإجماع
عاشت فرنسا صراعات داخلية، من الثورة الفرنسية، إلى الحروب، إلى النزاعات الطبقية. واحتاجت الدولة إلى علم اجتماع يُعيد التماسك. البنيوية كانت بمثابة عَلمٍ معرفي في خدمة الإجماع الاجتماعي، حتى لو كلفها ذلك إلغاء الفاعل.
ب) ألمانيا: الحاجة إلى الفعل والمعنى:
ألمانيا بعد الهزيمة في الحرب العالمية الأولى، وفي ظل تفكك الإمبراطورية، كانت تحتاج إلى بناء الفرد كمشروع جديد. ولهذا، ظهرت فلسفة الفعل، والنية، والمعنى، وبرزت مقاربات تستند إلى الحرية والمسؤولية.
خامسًا: محاولات التركيب: بورديو مرة أخرى
يُمثل بورديو محاولة تركيب بين الطرحين:
من البنيويين، أخذ البنيات اللاشعورية.
ومن الفاعليين، أخذ الاعتراف بالاستراتيجية الفردية.
لكنه أعاد دمج كل ذلك داخل الحقول الاجتماعية، حيث يفعل الفاعل داخل بنية محددة، وفق هابيتوس معين، لكنه يفاوض، يناور، يخطئ، ويصيب.
مثال: طالب جزائري من بيئة متواضعة يستعمل مهاراته الرمزية لكسب أساتذته، رغم أنه لم يتلق تربية نخبوبة، لأنه أدرك كيف تُلعب اللعبة داخل الحقل.
سادسًا: السوسيولوجيا الأمريكية والنقدية: الفعل، التفاعل، والسلطة:
في مقابل الطرحين الفرنسي والألماني، برزت في الولايات المتحدة مقاربتان مؤثرتان:
1. التفاعلية الرمزية:
تركز على الفعل الصغير، المعاني اليومية، والتفاعلات الرمزية بين الأفراد، حيث يتم إنتاج المعنى من خلال التفاعل الاجتماعي، لا من خلال بنية خارجية. من روادها جورج هربرت ميد، إرفنغ غوفمان، وبلومر.
مثال: طريقة تحية شخص لآخر في الشارع أو في المكتب تعكس ترتيبًا رمزيًا للهوية والمكانة.
2. المدرسة النقدية
نشأت في أوروبا (فرانكفورت) لكن أثّرت بقوة في أمريكا وأعادت مساءلة علاقة المعرفة بالسلطة. ترى أن البنية ليست فقط قهرًا لاشعوريًا بل أيضًا منتجٌ إيديولوجي يُعاد إنتاجه عبر الثقافة، الإعلام، والتعليم.
مثال: إعلان تجاري لا يبيع منتجًا فقط، بل يرسخ نمط حياة استهلاكي، ويعيد إنتاج قيم الهيمنة.
خاتمة
السوسيولوجيا، إذًا، ليست فقط أدوات، بل خلفيات وجودية. البنيوي جاء من خوف من الفوضى، فألغى الفرد. الفاعلي جاء من خوف من الذوبان، فأعاد الاعتبار للفعل. التفاعلي يرى المعنى يُنتج في التفاعل، والناقد يُعيد الاعتبار للسلطة والهيمنة الرمزية. والواقع، دائمًا، أعقد من الجميع. إنه حقل معقد من الرموز، والضغوط، والمقاومات، والمعاني. ومن هنا، فإن أي مشروع نظري في علم الاجتماع لا يجب أن يبدأ من نموذج واحد، بل من فهم البنيات التي تحكم الأفراد، والمعاني التي يمنحونها لأفعالهم، والسلطات التي تُشكل وعيهم. وهذا هو دور السوسي السوسيولوجيا: أن تُضيء المناطق المعتمة في الفعل، دون أن تُطفئ نور الفاعل نفسه.
تعليقات
إرسال تعليق