القائمة الرئيسية

الصفحات

العنف في الملاعب الجزائرية: قراءة سوسيولوجية وثقافية في بنية الغضب الجماعي!



بقلم . بوخالفة كريم باحث في علم الاجتماع - الجزائر 
مقدمة
العنف في الملاعب الجزائرية لم يعد سلوكًا شاذًا يطرأ عرضًا أثناء المنافسات، بل أصبح ظاهرة بنيوية ذات أبعاد اجتماعية وثقافية معقدة، تتجاوز إطار المنافسة الرياضية لتلامس أزمة الانتماء، واحتباس الوعي الجمعي، وتكلس القيم المدنية. لا يمكن فهم هذا العنف إلا من خلال تحليل سوسيولوجي معمق، يُقارب الظاهرة في ضوء مقاربات نظرية متعددة، ويكشف كيف تحوّلت مدرجات الملاعب إلى مرآة لبنية اجتماعية مأزومة ومخيلة جماعية متوترة.
 1 -العنف كمسرحة للغضب الاجتماعي:
في السياق الجزائري، يمثل العنف في الملاعب تعبيرًا رمزيًا عن احتقان اجتماعي واسع. فالشباب الذين يشكلون الأغلبية في جمهور الكرة، هم ذاتهم ضحايا البطالة، التهميش، والفراغ القيمي. من هذا المنظور، فإن العنف ليس سلوكًا اعتباطيًا، بل أداة تفريغ جماعيلغضب مكبوت، يجد في الفضاء الرياضي منبرًا لقول ما لا يُقال في الحياة اليومية.
مقاربة دوركهايم مثلا تفسر العنف كنتاج لخلل في التكامل الاجتماعي. فحينما تُفقد الروابط العضوية التي تربط الفرد بالمجتمع، يُستبدل التضامن بالعدوانية، وتتحول الجماعة إلى عصبية لحظية تبحث عن معنى مفقود.
كمثال: أحداث الشغب التي شهدتها مباريات "مولودية الجزائر" أو "شباب قسنطينة" لا تعكس فقط تعصبًا كرويًا، بل إحباطًا من واقع معيشي مُفلس، حيث تتحول خسارة الفريق إلى رمز لفشل أوسع: فشل الدولة، وفشل الحلم، وفشل الاندماج.
ثانيًا: المقاربة الثقافية – من الهوية إلى الهويات المتصارعة.
من منظور ثقافي، تشكل الملاعب امتدادًا لهويات جهوية وقَبَلية تُعاد إنتاجها رمزيًا في المدرجات. فالهتافات، الشعارات، الألوان، كلها أدوات ترميز لهوية محلية في مواجهة الآخر، ما يُنتج حالة من "القبلية الرياضية" التي تغذي مناخ العنف.
مقاربة كليفورد غيرتز تؤكد أن الرياضة ليست مجرد نشاط ترفيهي، بل "دراما رمزية" تكثف فيها الجماعات معاني الانتماء والاختلاف. ولهذا فإن الخسارة أمام الفريق الخصم لا تُستقبل كفشل تقني، بل كهزيمة وجودية تمس شرف الجماعة.
كمثال:التوترات المتكررة بين أنصار فرق الوسط وأنصار فرق الجنوب أو الشرق تعكس تراكمات تاريخية من التفاوت التنموي والإقصاء السياسي، يتم إسقاطها في الملاعب تحت غطاء المنافسة الرياضية.
ثالثًا: مقاربة الحقل الرياضي (بورديو) – الرياضة كفضاء لإعادة إنتاج الهيمنة.
يرى بيير بورديو أن المجال الرياضي ليس معزولًا عن حقول السلطة، بل هو امتداد لها. فالرياضة تعكس التوزيع غير المتكافئ لرأس المال الرمزي (الشهرة، القوة، المكانة)، وهي تُدار غالبًا بمنطق السوق والسياسة. من هذا المنطلق، يمكن القول إن العنف في الملاعب هو انعكاس لفقدان الثقة في منظومة رياضية تُدار بالفساد والمحسوبية، بدل الجدارة والمنافسة النزيهة.
كمثال: تكرار الحديث عن "شراء الحكام" أو "التلاعب بالنتائج" يغذي شعورًا جماعيًا بأن العدالة غائبة، فيجد المشجع في العنف ردًا على ظلم متخيل أو حقيقي. وهنا، يصبح العنف فعل احتجاج رمزي على تلاعب المنظومة.
رابعًا: الدولة والمجتمع – عندما تتفكك الوساطة:
سوسيولوجيًا، العنف في الملاعب هو مؤشر على فشل مؤسسات التنشئة الاجتماعية: المدرسة، الإعلام، الأسرة، والبلدية، في غرس القيم المدنية. لقد انسحبت هذه المؤسسات من لعب دور الوسيط بين الفرد والدولة، فوجد الشباب أنفسهم في حالة تيه وجودي، يستبدلون المجتمع بالدولة الرمزية للمجموعة الرياضية.
مقاربة د توكفيل ترى و تبرز أن الديمقراطية لا تُبنى فقط بالقوانين، بل عبر تنمية حس المشاركة والانتماء داخل المجتمع المدني. في غياب هذا الحس، تتحول الملاعب إلى فضاءات بديلة يمارس فيها الشباب شعورهم بالانتماء والسلطة، ولكن على نحو عدواني.
خامسًا: الثقافة الذكورية والعنف – الرجولة المصطنعة:
لا يمكن فصل العنف في الملاعب عن الثقافة الذكورية السائدة، حيث تُختزل الرجولة في القدرة على الهيمنة والصراخ والمواجهة. فالملاعب تُستثمر كفضاء لإثبات الفحولة الجماعية، حيث تُختبر الشجاعة لا بالنقاش، بل بالهتاف والتكسير.
مقاربة راوبن كونل حول "الرجولة المهيمنة" تُظهر كيف يُعاد إنتاج العنف كأداة لإثبات الذات في بيئات تعاني من التهميش والفراغ الرمزي.
كمثال: الصراعات بين مجموعات "الألتراس" ليست دائمًا بسبب المباراة، بل بسبب شرف المجموعة، أو الرد على إهانة رمزية سابقة، ما يعكس منطقًا بدائيًا في إدارة الصراع.
خاتمة:
العنف في الملاعب الجزائرية ليس ظاهرة رياضية محضة، بل هو مرآة مشروخة لمجتمع يعاني من فقدان التوازن بين الانتماء، العدالة، والمعنى. هو عنف يتغذى من فشل المؤسسات، من هشاشة الهوية، ومن غياب المشروع الجماعي.

معالجة هذه الظاهرة تتطلب أكثر من كاميرات مراقبة أو قوانين ردعية؛ إنها تحتاج إلى مشروع سوسيو-ثقافي يعيد بناء المواطن، لا فقط تأديب المتفرج, لأن الملاعب، في نهاية المطاف، لا تنفجر غضبًا إلا حينما تصمت الدولة والمجتمع عن صراخ مواطنيها في الحياة اليومية.

تعليقات