ليست سلوكيات الأفراد، في المجتمعات، مجرد نتائج لاختيارات فردية واعية، بل هي - كما بيّن بيير بورديو - نتاج لبنيات ذهنية لا شعورية متجذرة في التاريخ الاجتماعي والثقافي للمجتمع هذه البنيات، التي أسماها بورديو بـالهابيتوس تُشكّل أنماط الفعل والتصور والتفاعل، بحيث يبدو السلوك وكأنه طبيعي، في حين أنه اجتماعي ومُكتسَب. وفي الحالة الجزائرية، يُمكن القول إن كثيرًا من السلوكات اليومية – من التواكل، إلى ثقافة الريع، إلى الخضوع للسلطة، إلى التذمر دون فعل – كلها ليست مجرد “انحرافات”، بل تجلّيات لبُنية عميقة تشكّلت تاريخيًا وتمت إعادة إنتاجها اجتماعيًا عبر التربية، واللغة، والتنشئة، والمخيال الجماعي.
أولًا: ما هو الهابيتوس؟
الهابيتوس، في تعريف بورديو، هو:
«نسق من الاستعدادات المكتسبة، المنظمة بطريقة لا شعورية، التي توجه الفعل والإدراك والتقدير لدى الفاعل الاجتماعي».
وهو ليس مجرد عادات، بل طريقة في الشعور والتفكير والتصرف ، يكتسبها الفرد منذ الطفولة من خلال التنشئة الاجتماعية داخل الأسرة، المدرسة، الحقل الثقافي، ويُعيد إنتاجها لاحقًا دون وعي.
ثانيًا: تشكُّل الهابيتوس الجزائري:
إن تشكُّل الهابيتوس في الجزائر لا يمكن فصله عن الإرث الكولونيالي، والبنية الأبوية، وتجربة الدولة الريعية بعد الاستقلال، التي أسّست لنمط من المواطنة قائم على الانتظار، والاعتماد، والخضوع، أكثر من المبادرة والفعل. وقد أدى ذلك إلى ظهور نمط معيّن من الهابيتوس يتميز بخصائص مركزية:
1. التطبيع مع اللامساواة:
الفرد في الجزائر غالبًا ما يتقبل التراتبية الاجتماعية كأمر واقع، وينظر إلى أصحاب النفوذ على أنهم “أقوياء لا يُمكن مجابهتهم”، مما ينتج نوعًا من **الخضوع الرمزي, لا بالقهر، بل بالقبول الضمني.
مثال المواطن لا يُطالب بحقه في الإدارة بل يبحث عن واسطة، لأن الهابيتوس تعوّد على أن الحق لا يُؤخذ بل يُمنح.
2. الإيمان بالريع كمنطق حياة:
الهابيتوس الجزائري مُتشرّب بثقافة ريعية جعلت الكثيرين يرون أن الثروة تأتي من الدولة، لا من العمل أو الابتكار. هذا ما يجعل الفرد يتعامل مع المال العام وكأنه “غنيمة”، لا موردًا جماعيًا يجب الحفاظ عليه.
مثال: عند الحديث عن الفساد، يقول المواطن: “كلهم يسرقون، لم لا أسرق أنا أيضًا؟”، مما يعكس تطبيعًا مع منطق الريع.
3. تقديس الرموز الأبوية ومقاومة التغيير:
الهابيتوس تشكل في مجتمع تقليدي أبوي، ما زال يمجّد القائد، الشيخ، المسؤول، حتى في ظل الفشل. وهو ما يُنتج مقاومة لا شعورية لأي خطاب تحديثي، أو دعوة للمساءلة، لأنها تُفسَّر كـ “قلة احترام”.
مثال: رفض الموظف التبليغ عن المدير الفاسد لأن ذلك “عيب” أو “خيانة”.
4. تجزئة الفعل بين العلني والضمني:
الفرد يُمارس ازدواجية في حياته اليومية: يُعلن ما لا يؤمن به، ويمارس ما لا يصرّح به. وهذا ناتج عن هابيتوس تشكّل في بيئة تتطلب التمويه، والمراوغة، والاحتيال الرمزي.
مثال: الموظف يعلن التزامه بالنظام، لكنه يقدّم خدمات خاصة خارج الإطار القانوني مقابل رشوة.
ثالثًا: الهابيتوس كمُعطى مُعطِّل للحوكمة وعصرنة الإدارة"
حين نسعى إلى إصلاح الإدارة أو عصرنتها، نغفل أن القوانين والرقمنة لا تنجح في بيئة مشبعة بهابيتوس قديم. فالموظف لا يتصرف وفق ما تقوله المنصة الإلكترونية، بل وفق ما تعلّمه اجتماعيًا: المحاباة، تعطيل الإجراءات، التعامل التفضيلي مع “معارفه”.
المفارقة: عصرنة الإدارة قد تفشل لأن “الهابيتوس الإداري” لا يزال يعمل بمنطق غير رسمي، وغير شفاف، ويُفرغ الأدوات الحديثة من مضمونها.
رابعًا: كيف نُعيد تشكيل الهابيتوس؟
بورديو نفسه يقر بأن الهابيتوس ليس قدرًا أزليًا، بل قابل للتحول عبر ما يسميه "تحولات الحقل" و"الكشف عن اللاشعور الاجتماعي". ومن هنا تأتي الحاجة إلى:
إصلاح التربية والتعليم: لا فقط من حيث المناهج، بل في أساليب التنشئة التي تخلق مواطنًا حرًا، مسؤولًا، نقديًا.
تعزيز الثقافة المدنية: عبر خطاب إعلامي وفني يحترم العقل والكرامة.
تدريب الموظفين: ليس فقط على التقنيات، بل على القيم الجديدة للمرفق العام.
نشر المعرفة السوسيولوجية: كوعي نقدي يسمح للمجتمع بقراءة ذاته، وفهم اللاشعور الذي يحرّكه.
خاتمة:
الفساد، اللامبالاة، العنف الرمزي، الخضوع، التواكل… ليست مجرد “مشاكل اجتماعية” في الجزائر، بل تجلّيات لهابيتوس ترسّخ منذ عقود، ويُعاد إنتاجه يوميًا في المدرسة، البيت، الإدارة، وحتى اللغة. وتُعد مقاربة بورديو من أنجع الأدوات السوسيولوجية التي تسمح بفهم هذه البنيات اللاشعورية التي تتحكم فينا أكثر مما نظن.
لكن الاعتراف بالهابيتوس لا يعني التسليم به. بل يعني إدراك عمقه، لتفكيكه. والإصلاح يبدأ حين نُسائل ما نظنه “طبيعيًا”، فنكتشف أنه اجتماعي، ومصنوع، ويمكن تغييره.
بقلم السوسيولوجي الجزائري : بوخالفة كريم
تعليقات
إرسال تعليق