القائمة الرئيسية

الصفحات

مقصلة الأرواح

كانت "رُبى" تمشي بين الأزقة الضيقة لمدينتها القديمة، ترتجف بردًا رغم أن الشتاء لم يحضر بعد.
عيناها مبللتان دائمًا، كأن الدموع قد أقسمت ألا تفارق مآقيها.
لم يكن أحد يعرف عن رُبى أكثر من أنها "الفتاة التي تبتسم للجميع"، بينما في الليل، كانت تخوض حروبًا صامتة ضد جراحها الخفية.

فقدت أمها في سن الطفولة، وشهدت بأم عينها كيف تنكسر الأرواح حين يغيب الحضن، وتبرد الحياة حين تموت القلوب.
كبرت وهي تخيط قلبها كلما انشق، حتى امتلأ بالخيوط وتعب من الترقب.

في بيتها الصغير، بين جدران يابسة تشكو الصمت، جلست قبالة مرآة متآكلة الإطار تتأمل وجهها.
لم ترَ سوى امرأة أكلت الهموم ملامحها، وشاخت عيناها من البكاء الذي لم يسمعه أحد.

هناك، في أعماقها، كانت مقصلة الأرواح تعمل بلا هوادة؛
تقص شرايين الأمل، وتذبح أحلام الطفولة التي كانت تركض فيها خلف فراشات لم تصل إليها أبدًا.

كانت تكتب رسائل طويلة إلى الله، تبللها بدموعها، ثم تمزقها قبل أن تُرسلها.
لم تكن تشك في رحمته، بل كانت تخشى أن يكون اليأس قد أغلق عليها أبواب الرجاء.

في كل ليلة، كانت تنهار قطرةً قطرة...
ابتدأت بأنفاس ثقيلة، ثم وخزات في الصدر، ثم رعشة خفيفة في أطرافها، حتى تغرق أخيرًا في بكاء صامت، مخنوق، يشبه موتًا بطيئًا لا تراه العين.

وفي ليلة خرساء، انهار كل شيء.
صرخت روحها أولًا، تبعتها الذكريات، ثم تمزق قلبها كما يُمزق القماش القديم.
انهارت على الأرض كزهرة سقطت من شرفة عالية، لا تحتضن إلا الفراغ.

مرت ساعات أو ربما أيام، لم تعد تميّز الزمن...
كانت جسدًا بلا ظل، وقلبًا بلا نبض، وروحًا تتنفس تحت وطأة الحطام.

وحين سكن كل شيء...
نهضت "رُبى" بخطوات خافتة كمن يسير إلى جنازته.
فتحت باب بيتها، وسارت إلى حيث المدينة تعلق أضواءها الباهتة على نوافذ اليأس.

في الميدان، كانت هناك شجرة وحيدة تتحدى عتمة الليل بجذعها المنحني.
اقتربت منها، أسندت رأسها على الجذع البارد، وأغمضت عينيها.

همست بشفاه مرتجفة:
"كم مرة علينا أن نموت في الداخل، قبل أن يعترف العالم بأننا ما زلنا أحياء؟"

وسقطت دمعتها الأخيرة على الأرض اليابسة...
ومن بين شقوق التراب، أنبتت وردة صغيرة، وردة وحيدة، لكنها نابضة بالحياة، تشهد أن الألم مهما طال لا يستطيع أن يقتل روحًا اختارت أن تبقى.

في صباح اليوم التالي، كان الميدان أكثر دفئًا رغم برودة الطقس.
لم يكن أحد يعلم السر، لكن من اقترب من الشجرة اليتيمة لمح وردة حمراء صغيرة تتمايل بخجل، كأنها قلب انتصر أخيرًا، بعد ألف هزيمة

الكاتب : إدريس أبورزق

تعليقات