القائمة الرئيسية

الصفحات

قوة التغافل 
بقلم: الأستاذة خديجة آلاء شريف
في قرية نائية لا يعرفها الكثيرون، حيث الأرض قاحلة والسماء مليئة بالغبار، وُلدت فاطمة. كانت حياتها في البداية مجرد صراع مستمر مع الفقر، وضيق الأفق، وعالم ينظر إلى أحلامها نظرة استهزاء. كانت تنتمي إلى أسرة فقيرة جدًا، لكنها كانت تملك قلبًا مليئًا بالأمل، وعقلاً ناضجًا بما يتجاوز عمرها.
منذ صغرها، كانت فاطمة تتمتع بموهبة خارقة في رياضة الكاراتيه. كانت جسدها المرن وقوتها الداخلية يثيران دهشة كل من رآها تتدرب. لكن كما هو الحال دائمًا في المجتمعات الصغيرة، كان للفتاة مكان واحد فقط: المنزل. الرياضة النسائية، خاصة في القرى النائية، كانت تُعتبر رفاهية أو مجرد ترف عقلي. وكان كل من حولها يعتقد أن حلمها مجرد خيال، وأن مكانها الطبيعي ليس في حلبة الرياضة، بل بين جدران المنزل.
رغم كل هذا، كانت فاطمة تتحلى بعزيمة لا تقهر. كان التدريب هو متنفسها الوحيد. كانت تتسلل إلى الساحة الخلفية للمنزل، تركز كل طاقتها في الحركات، وترتدي شريطها الأبيض القديم الذي يرمز للانطلاقة. ورغم الإحباط، كانت تجد السلام في حركاتها، وكأنها تُصارع ليس خصمًا في حلبة، بل العالم بأسره.
ومع مرور الوقت، بدأت الحالة النفسية لفاطمة تتدهور. الكلمات الجارحة، والأنظار المستهزئة، والخيبات المتتالية بدأت تشكل جدرانًا عازلة حول قلبها. وكلما اقتربت من النجاح، كانت تجد نفسها تعود إلى نقطة البداية، وكأنها تدور في حلقة مغلقة. بدأت تتساءل: "هل هذه حياتي؟ هل سيظل حلمي هذا مجرد سراب؟"
قررت فاطمة في إحدى الليالي أن تلجأ إلى مختصة نفسية. كانت تشعر بحاجة مُلحة للحديث، وتحرير نفسها من القيود الداخلية التي تكبّلها. جلست أمام المختصة وهي تروي قصتها، وحكايات الفشل التي تراكمت في حياتها. كانت تأمل أن تجد جوابًا لما تشعر به من ضياع.
قالت المختصة بلطف، بينما نظرت إليها بعينين مليئتين بالحكمة:
— "فاطمة، أنتِ تظنين أن قوتك تكمن في محاربة كل من يقف في طريقك، لكن الحقيقة هي أن القوة الحقيقية تكمن في قدرتك على التغافل. تعلمي كيف تتجاهلين ما لا يستحق أن تؤثري فيه، وتُركّزي على نفسك فقط. اتركي لكل من يحاول إحباطك أن يمر كما لو كان الهواء. لا تجعلي كلماتهم تدخلك في دوامة جديدة."
كانت كلمات المختصة مثل شرارة أضاءت عتمة فاطمة. التغافل؟ ماذا يعني هذا؟ كيف يمكن أن يكون التغافل هو الحل؟ لكن شيئًا في قلبها قال لها إنها على أعتاب اكتشاف شيء كبير.
في اليوم التالي، بدأت فاطمة تتبع نصيحة المختصة. لم تكن تعرف بالضبط كيف تبدأ، لكن كانت هناك رغبة قوية بداخلها لتجربة هذا "التغافل". بدأت تدريجيًا بتجاهل كل التعليقات السلبية التي كانت تنهال عليها من جميع الجهات. كان جيرانها وأفراد عائلتها يلقون كلمات محبطة، وكان بعضهم يحاول التقليل من شأنها، لكن فاطمة اختارت أن تتجاهلهم كما لو كانوا أشباحًا. بدأت تركز فقط على تدريباتها، على تحسين مهاراتها.
ومع مرور الوقت، بدأ شيء غريب يحدث. تدريجيًا، بدأ العالم من حولها يتغير. لم تعد كلمات الناس تزعجها كما كانت في السابق. أصبحت تتمتع بهدوء داخلي غير مسبوق، وكأن قلبها أصبح محصنًا ضد أي شيء قد يعكر صفوها. أصبحت تشعر بالقوة، بالقوة الحقيقية التي لا تأتي من محاربة الآخرين، بل من قدرتها على إغلاق أبواب الفوضى التي تحيط بها.
مرت أشهر، وقررت فاطمة المشاركة في بطولة الكاراتيه على مستوى المدينة. كانت تعلم أن هذه هي فرصتها لتثبت لنفسها وللعالم أنها تستطيع. مع كل منافسة كانت تمر، كانت تشعر بتعزيز قوتها الداخلية. لم تكن تهتم بمن ينظر إليها أو كيف ينظرون لها. كانت فاطمة تعرف من هي، وماذا تستطيع أن تحقق.
في المباراة النهائية، كانت المنافسة قوية جدًا، ولكن فاطمة لم تكن تهتم بالنتيجة. كانت تُركّز فقط على الحركة التالية، على التنفس، على قلبها الذي كان ينبض بالسلام الداخلي الذي اكتسبته من التغافل. وعندما أُعلنت فاطمة بطلة البطولة، لم يكن ذلك مجرد فوز رياضي، بل كان فوزًا أكبر، فوزًا روحيًا. كان فوزًا على القيود التي وضعتها بنفسها، وعلى الأصوات التي حاولت أن تقلل من شأنها.
بعد البطولة، ذهبت فاطمة إلى المختصة النفسية، وقالت لها بابتسامة واسعة:
— "لقد فهمت الآن. التغافل ليس عن الهروب من الواقع، بل عن اختيار الواقع الذي نريد أن نعيشه. لم أعد أسمح للأصوات الخارجية أن تقيدني. أصبحت أعيش كما أريد، وأفكر كما أريد، وأحقق كما أريد.
الأستاذة خديجة آلاء شريف

تعليقات