في أحد الأيام العابرة، وبين أزقة الخريف المتساقطة، لمحَتْها عيناها كطيف هائم على الرصيف. كانت امرأة عجوزًا تجلس في وسط شارع مكتظ، لا يُلتفت إليها إلا بنظرات عابرة تختفي قبل أن تستقر. لكن كان هناك شيءٌ مختلف في هذه الطلة، شيءٌ غريب، جعلني أقف لأتأمل أكثر، كأنني أحاول أن أقرأ قصتها في ملامحها الصامتة.
تكرر المشهد يومًا بعد يوم. نفس الجلوس، نفس النظرات البائسة التي لا تخطئها عين. كانت تتحدث بالحزن والحاجة دون أن تنطق بكلمة. وتحت الخمار الذي يغطي رأسها، لمحت خصلاتٍ فضية تتسلل إلى العلن، وكأنها تروي قصة العمر الطويل الذي أثقل كاهلها. لم أتجرأ على السؤال، فالغموض كان سيد الموقف.
لكن ذات يوم، قررت أن أقترب. بخطوات محتشمة تقدمت نحوها، ولم أعرف كيف أبدأ الحديث. وقفت أمامها بلطف، وسألتها:
سيدتي، هل تبحثين عن شخص ما؟ أيمكنني مساعدتك؟"
لم يأتِ الجواب. فقط نظرات مضطربة، ثم نهضة سريعة، ورحيل لم يترك وراءه سوى الأسئلة العالقة. وكأنها تخشى الكلمات أكثر مما تخشى العيون. لكن شيئًا بداخلها دفعها لعدم الاستسلام.
مع مرور الأيام، حاولت الاقتراب أكثر، لا بالكلام، بل باللطف الذي يسبق الحديث. تركت لها القليل من الطعام، قطعة ملابس دافئة، شيئًا من الأمل الصامت. ومع الوقت، بدأت العجوز تُظهر نوعًا من الثقة، رغم صمتها المستمر. وذات يوم، طلبت منها أن تكون ضيفتي.
وافقت، لكنها كانت كعادتها قليلة الكلام، لا تجيب إلا بـ"نعم" أو "لا"، وكأن الكلمات حمل ثقيل ترفضه.
وفي لحظة صدق نادرة، سألتها من تكون. عندها فقط، كسرت صمتها الطويل، وقالت بصوت مبحوح:
**"أنا التي تركوني أولادي في دار المسنين، لم يهتموا لحالي، لم يفكروا بي. فكيف أقبل الغريب الذي أصدم بطيبة قلبه يسأل عن أحوالي؟ لقد هربت من هناك، حتى ألقى الله وأخبره بما حدث لي، وأني ساخطة على من تعبت في تربيتهم ونجحوا، لكن قابلوني بالرفض والنكران."**
كانت كلماتها كضربة ريحٍ باردة في يومٍ رمادي. شعرت بثقل تلك الجملة يسكن قلبها، يملأ الفراغ بينهما بصوت الحزن الذي لا يُسمع إلا حين يصير أبدًا.
منذ ذلك اليوم، صارت أزورها دون أن أثقل عليها بالسؤال. أترك لها الطعام، أغمرها باللطف، أمنحها شيئًا من الأمان في عالمٍ نفاها بعيدًا عن دفء العائلة.
لكنني ذات صباحٍ غائم، لم أجدها في مكانها المعتاد. سألَت، بحثَت، لكن لم يكن هناك أثرٌ للعجوز. كأنها اختفت كطيفٍ ظهر في الخريف ثم غادر إلى الأبد.
تركت لي ذكرى في قلبي، ودرسًا لا يُنسى:
ليس كل الغريب قاسيًا، وليس كل قريبٍ رحيمًا.
بقلمي الأستاذة
تعليقات
إرسال تعليق