القائمة الرئيسية

الصفحات

من سلسلة : " ليالي العودة " 

حلقة اليوم : نور في الطريق

كانت "رُبا" تسير على طريق صحراوي طويل، تحت شمس لاهبة تسلب من الروح طمأنينتها. لم تكن تعرف أنها بهذا القرار، بتركها كل شيء خلفها، ستواجه رحلة تغير حياتها إلى الأبد. تركت المدينة هربًا من كل ما أثقل قلبها. من همومها، من خطاياها التي ظلت تطاردها كظل لا يرحم.

كانت تُفكر أن الصحراء مكان مثالي لتضيع فيه، لتبتعد عن كل شيء، وربما لتجد السلام الذي هرب منها طويلاً. لكنها لم تكن تعرف أن الصحراء ستأخذها إلى أعماق ذاتها التي لم تواجهها من قبل.

بعد ساعات من السير بلا هدف، توقفت السيارة التي كانت تقودها. نفد الوقود، ولم يكن هناك من يُنجدها. نظرت حولها، فلم تجد إلا الرمال تمتد بلا نهاية، وشمسًا تحترق فوق رأسها.

جلست على الأرض، وقد بدأ الخوف يتسرب إلى قلبها. حملت هاتفها، لكنه كان بلا إشارة. شعرت بالضعف يتملكها. لأول مرة في حياتها، أدركت أنها عاجزة تمامًا، بلا أي قدرة على النجاة بنفسها.

وبينما كانت تُفكر في أسوأ السيناريوهات، لمحت من بعيد ظلًا لشخص يسير نحوها. كان رجلًا مسنًا، له لحية بيضاء ووجه يحمل هدوءًا غريبًا. كان يمشي بخطوات ثابتة رغم حرارة الشمس الحارقة.

قالت له: "من أنت؟ وكيف وصلت إلى هنا؟"
ابتسم وقال: "أنا مسافر مثلك، يا ابنتي. لكن يبدو أنك تائهة، أليس كذلك؟"
نظرت إليه باستغراب وقالت: "نعم، سيارتي تعطلت، وأنا لا أعرف ماذا أفعل."

جلس بجانبها وقال: "التوهان في الصحراء يشبه التوهان في الحياة. كلاهما يدفعك لتسأل نفسك: إلى أين أنا ذاهبة؟"

كانت كلماته عميقة، لكنها لم تفهمها تمامًا.
بدأ الرجل يرافقها في الصحراء، وقد كان يحمل قربتين من الماء وعصا يتكئ عليها. سار بجانبها وبدأ يحكي لها قصصًا غريبة.

"كان هناك رجل غني، يملك كل شيء، لكنه لم يشعر يومًا بالسعادة. وعندما ضاع في الصحراء مثلك، أدرك أن كل ما كان يملكه لم يكن ذا قيمة مقارنة بقطرة ماء تُحيي حياته."

"وكان هناك امرأة ظنت أن أخطاءها أكبر من رحمة الله. لكنها عندما واجهت الموت، أدركت أن الله يغفر بمجرد أن تطلب منه، بقلب صادق."

كلما تحدث الرجل، شعرت رُبا بأن كلماته ليست مجرد قصص، بل رسائل موجهة إليها.

في الليل، عندما انخفضت درجة الحرارة وباتت الصحراء مظلمة، جلست رُبا تحت السماء المرصعة بالنجوم. شعرت بشيء داخلي يتحرك للمرة الأولى منذ سنوات.
قالت للرجل: "أنا هاربة. هاربة من ماضٍ مليء بالذنوب، ومن أشخاص ظلمتهم، ومن نفسي التي لم أعد أعرفها."
نظر إليها بهدوء وقال: "أتعلمين أن الصحراء تُعلمنا شيئًا مهمًا؟ في كل هذا السكون والفراغ، تسمعين صوتًا واحدًا فقط، هو صوت قلبك. وصوت قلبك دائمًا يقودك إلى الله."

انهارت بالبكاء. شعرت لأول مرة منذ سنوات أن هناك أملًا.

في الصباح التالي، أشار الرجل إلى اتجاه بعيد وقال: "هناك طريق يؤدي إلى بلدة صغيرة، ستجدين النجاة هناك."
قالت له: "ماذا عنك؟ ألا تأتي معي؟"
ابتسم وقال: "طريقي مختلف عن طريقك، لكن تذكري: النجاة ليست فقط من الصحراء، بل من كل ما يثقل قلبك. اطلبي المغفرة، وسترين كيف يفتح الله لك أبواب النور."

تركها الرجل ومضى، لكن رُبا شعرت أنها لم تعد الشخص ذاته.

وصلت إلى البلدة كما أشار لها، وتغيرت حياتها تمامًا. بدأت تبحث عن السلام في الصلاة، وعن السكينة في التوبة. وعندما عادت إلى المدينة، بدأت في رد الحقوق إلى أصحابها، والتكفير عن كل ما فعلته.

كلما تذكرت الرجل الغامض، شعرت أنه لم يكن مجرد شخص عادي. كان درسًا من الله، أرسله ليضيء طريقها في الظلام، وليخبرها أن النور دائمًا موجود، فقط إن قررت أن تسير نحوه.

هكذا، أدركت رُبا أن الصحراء لم تكن مكانًا للضياع، بل كانت بداية لطريق جديد يقودها إلى الله.

الكاتب : إدريس أبورزق

تعليقات