القائمة الرئيسية

الصفحات

من سلسلة " رسائل كونية للنفس البشرية " للكاتب إدريس ابورزق 

الحلقة الثانية : أمواج الأرواح

كانت الجزيرة تبدو وكأنها مكان منعزل عن الزمن، غارقة في هدوءٍ يخفي تحته أصداء لا يمكن للآذان أن تسمعها. هناك، عند شاطئ الرمال البيضاء حيث تلتقي الأرض بالمحيط الشاسع، عاشت مريم وحدها لسنوات طويلة. لم تكن عزلتها اختيارًا محضًا، بل نتيجة خسائر متتالية دفعتها للهرب من عالمٍ بدا وكأنه لا يتسع لأوجاعها.

في كل صباح، كانت مريم تستيقظ على صوت الأمواج وهي تضرب الصخور بوحشية، كأنها مرآة لصخب داخلها. الأمواج ليست مجرد ماء متحرك، بل كانت كائنًا يتحدث معها، يفشي أسرار نفسها التي حاولت كتمانها.

كانت الأمواج تعلو وتشتد حين يغمرها الحزن، كأنها تعرف عن ألمها أكثر مما تعرفه هي. أحيانًا، تقف مريم على الشاطئ وتشاهد تلك الكتل العملاقة من الماء وهي تتكسر في ثورة تشبه صرخات ماضيها، فتشعر أنها محاطة بمرآة عملاقة لم تستطع تجنب انعكاسها.
في إحدى الليالي، عندما كان القمر المكتمل ينير المياه بزهو، وقفت مريم على الشاطئ وهي تحمل كتابها القديم. كان هذا الكتاب هديته لها في عيد ميلادها الأخير، قبل أن يبتلعه البحر في حادث غامض منذ عشر سنوات. رائحة الصفحات ما زالت تحمل شيئًا منه، وقراءة كلماته لم تفعل سوى تعميق ندبتها.

لكن هذه الليلة كانت مختلفة. كانت الأمواج أكثر هدوءًا، كما لو أنها تنصت لصمتها الداخلي. جلست على الرمال، تحدق في اللامحدود أمامها. تذكرت كلمات جدتها: "الأمواج ليست سوى انعكاس لأرواحنا، تهدأ حين نسامح أنفسنا، وتثور عندما نجلدها." تساءلت مريم هل عذبتها الأمواج لأنها لم تتمكن من المسامحة؟

اقتربت إحدى الأمواج منها بشكل مفاجئ، لامست قدميها كأنها تحتضنها. شعرت بدفء لم تعرفه من قبل في ليل المحيط البارد. كانت تلك اللحظة بداية حوار جديد. تحدثت مريم مع الأمواج كما لو أنها تتحدث مع أعماقها: "لقد خسرته... ولم أعرف كيف أواجه الحياة بدونه."

أجابها صوت البحر في رأسها همسًا، وكأن الأمواج صارت جزءًا منها: "الخسارة ليست نهاية البحر، بل موجة تمر وتعود. لتكن أرواحنا كالمحيط، لا تنضب، بل تتحرك وتتغير دائمًا."

في اليوم التالي، تغيرت مريم. أصبحت تسير على الشاطئ لا هروبًا، بل بحثًا عن التواصل مع ذاتها. بدأت تلاحظ كيف تعكس الأمواج حالتها؛ فعندما كانت غاضبة، تعلو الأمواج لتذكّرها بضرورة الهدوء. وعندما تغرق في الحزن، تقترب منها الأمواج الصغيرة، وكأنها لمسة من العزاء.

مع الوقت، أدركت مريم أن الأمواج لم تكن أعداءها بل شريكًا لصراعها الداخلي. وفي لحظة سلام نادرة، قررت أخيرًا أن تواجه البحر، ليس لتحارب، بل لتتسامح. رمت كتابه في المياه وهي تقول: "لن أحتاج للماضي بعد الآن." غابت الكلمات تحت الأمواج، وغابت معها الأوجاع التي كانت تحتجزها داخلها.

منذ ذلك اليوم، أصبحت مريم جزءًا من الجزيرة لا انعزالاً بل اتصالاً. تعلمت أن كل موجة تهدأ تعطي درسا في التسامح، وكل موجة تثور تُذكر بأن الألم ضروري للنمو. والأهم، أنها أدركت أن المحيط، كما هو الحال في روح الإنسان، ليس سوى حكاية حركةٍ أبديةٍ بين المد والجزر.

تعليقات