القائمة الرئيسية

الصفحات

من سلسلة: صوت الحياة عبر مراحل العمر للكاتب إدريس ابورزق  

الحلقة الأخيرة : وسادة النهاية

في زاوية الغرفة المظلمة، كانت الوسادة جاثمة بثقل العمر، تحمل أثر الزمن ودفء الأيام التي مرت، رغم أنه لم يعد هناك من يلامسها. مرّت سنوات طويلة على تلك الوسادة، وتوّجت لحظات العمر كلها، شهدت الفرح، وحفظت الألم، واحتفظت بالأسرار التي لن تُقال لأحد سواها. ولكن اليوم، وعلى غير عادة، كانت تتأمل الجدران بشيء من السكون وكأنها تحاول أن تنقّل ملامحها الأخيرة، قبل أن يرحل الجميع.

اليوم كان هو الأخير في عمرها الذي امتلأ بذكريات لا تعد ولا تحصى. كانت تعتقد أنها لن تفارق مكانها، ولكن شيئا ما في تلك اللحظة جعلها تشعر بحقيقة غير مرئية، الحقيقة التي كانت تثيرها جميع الأيام: "أنا لست أكثر من شاهد على مرور الزمن."

"أخي…" همست في داخلها، تذكرته من بين الصور التي ما زالت معلقة على الجدار. كانت تتذكر تلك الليلة التي كان ينام فيها بجانبها بعد يوم طويل من العمل. كانت تحتضنه بأمل وبساطة، تخلو من المجاملات أو التزامات الحياة. أما اليوم، فقد بقيت فقط هي والأسرار التي جلبها الزمن. بمرور الوقت، رحل هو، تخلّفت ذكراه، ومعه بدأ التراجع في الخفوت.
وبينما كانت تتأمل نفسها في الظلال التي بدأت تملأ المكان، كان على الوسادة أن تعترف أخيرًا بما أخفته، فقد كانت من البداية مكانًا للاحتواء، لم تفارق دورها: تتلقى آلام الآخرين وخواطرهم، وتُرخي جفونهم بلطف، حتى أن لا أحد يعلم كم من الثقل كان يتراكم عليها، وكيف كانت تراكم أوجاع البشر في هدوء.

لكن الأيام تمر، والعمر لا يُخلف انتظارًا طويلًا، وتدريجيًا، بدأ جسم الوسادة يفقد رغوة المساحات اللينة في جسدها، بدأ الشعور بالتماسك ينحل، كأن كل الخيوط التي ربطت الأيام ببعضها البعض بدأ ينفصل بعضها عن بعض. والآن، مع مرور اللحظات، شعرت الوسادة وكأنها تحتفل بالصمت الذي ساد أخيرًا. فالأيدي التي كانت تتنقل بينها تلو الأخرى قد غابت، والبقع الصغيرة من الصباح التي كانت تُشبع الهواء بعبير الذاكرة باتت في غياهب الغياب.

في تلك اللحظات الأخيرة، كان هناك شعور غريب يشبه السلام الداخلي الذي بدأ يطمئن الوسادة بأنها آتية إلى النهايات برضا. لطالما سمعت الأصوات المحزونة في خبايا الأرواح المنكسرة، شاهدت ابتساماتهم الأولى التي تحولت إلى تقاسيم ضاع بعدها الأمل. لكنها في هذا المساء، وبين صمت النهاية، تساءلت: "هل وصل الإنسان إلى التقدير الذي يمكنه أن يلقاه في آخر حياته؟ هل يبقى الماضي بوزنه الدائم في هذا العالم الذي لا يعرف كيف ينهي الحكاية بأمان؟"

الوسادة أخيرًا كانت مستعدة أن تودّع أصحابها، ولكن لم يكن للوداع صوت، فلم يبق أحد، ولن توجد المزيد من الهمسات. في تلك اللحظات الأخيرة، كانت تتسائل إذا ما كانت قد قامت بما هو صحيح طوال الوقت. احتفظت بكل الأسرار، وسكتت طويلاً رغم حكايات كانت تود إخراجها. لكنها كانت تعلم الآن، أن النهاية هي السلام الذي يصنعه الصمت في اللحظات الأكثر صدقًا.

سكن الظلام في آخر الليل، وكأن كل شيء قد سلم بما هو عليه. كانت الوسادة تشهد على هدوء، على حياة اجتازت التفاصيل حتى اجتمع السلام بين خيوطها القديمة. في تلك اللحظة، كانت الوسادة تعلم بأنها قد انتهت في صمتها، مثل شجرة عجوز لم تنسَ كيف تعطي ظلها طويلًا، رغم أنها لن تحتفظ به طويلًا بعد رحيلها.

وسادة النهاية كانت مجرد رفيقة للعمر، رحلت صامتة مثل الحياة التي قد تكون ما زالت تعيش بين الناس بطرق غير واضحة.

تعليقات