القائمة الرئيسية

الصفحات

من سلسلة: صوت الحياة عبر مراحل العمر للكاتب إدريس ابورزق  

 الحلقة السابعة : وسادة الشيخوخة 

كانت وسادة الشيخوخة خالية من الزخارف والترف، جافة على أطرافها بفعل السنوات. خيطها صار مهدمًا والملاسة التي كانت تتمتع بها أصبحت غائرة. لكنها في جوهرها كانت تحمل شيئًا نادرًا، ذاكرة أعوامٍ تبتعد وتتقادم مع كل لحظة، تجمع في ثناياها الحكايات التي مر بها صاحبها منذ أول لحظة نوم وحتى الآن.

"فاطمة" كانت قد بلغ عمرها الثمانين عامًا، وعيونها لا ترى كما كانت من قبل، وجسدها أثقل من أن يعتدل في سريرها الموحش. لكن قلبها لا يزال ينبض بأصداء الماضي، متأملًا كل التفاصيل الصغيرة التي كانت تمتلئ بها أيامها في شبابها، ذكرياتها عن أول حب، وتلك اللحظات التي مرّت سريعة، وهي الآن تهرب منها.

وضعت رأسها على الوسادة، وأغمضت عينيها بنعومة تتبع لحظات مسابقة بين التفكير والذكريات.

همست لنفسها، وكأنها تخاطب الوسادة:
"أذكر تلك الأيام، يا وسادتي. كم كانت مليئة بالأمل والمغامرة... كانت الحياة أمامي مثل صفحة بيضاء."
لم يكن صوتها سوى خيال من الماضي، تكتنزه الوسادة في صمت طويل. فاطمة لم تود أن يعكر ليلها كل هذا الفقد. فقد فقدت الكثير على مر السنين: فقدت الوقت الذي لم تعِشه كما يجب، وأحبائها الذين رحلوا واحدًا تلو الآخر، وأحلامًا لم تكملها.

ومع ذلك، رغم ملامح الألم في قلبها، كانت اللحظات الأخيرة في الليل تحمل شيئًا من الرضا غير المتكلم. فاطمة رغم ما عانته، بدأت ترى المعنى في أيامها، وفي عذوبة الذكريات، والضوء الذي يرقبها في آخر الليل. همست لها الوسادة بهدوء كما تعودت هي أن تقول:

"لم يعد شيء من هذا العالم يعنيني كثيرًا، يا وسادتي. كل شيء قد انتهى… ولكن، هل كانت حياتي بعيدة عن الكمال؟ ربما… ولكنني عشتها."

في تلك اللحظات، كانت تشعر بالكثير من السكينة. كانت ترى الغد لا يصل أبدًا، لكن لا أحد يشبع من التأمل في الذاكرة الطويلة. كيف كان زوجها يُمسك يديها في المساء عندما كانوا يجلسون معًا، وتلك الضحكات التي ملأت بيتها في سنواتها السابقة. تتذكر الآن تلك المحطات، وهي تلامس ثنايا الوسادة المتعبة التي تحتفظ بصمت العابرين.

كان الشفق يتسلل عبر نافذتها، ويلمس وجهها العجوز بحذر، كما لو أن كل شيء يذوب بلطف ويعود للأصل. سكن الحب في قلبها، وقد تحول الآن إلى عزاء. هي من علمت نفسها أن الحب ليس فقط في الكلمات ولا في اللحظات السريعة، بل هو في عمق الأيام التي تعلمنا أن نعيشها مهما طال الزمن.

كانت الوسادة شاهدة على الوحدة التي فرضتها السنون، ولكنها تحمل أيضًا في طياتها رغبة الخلاص والترقب للغد، حتى وإن كان الوقت يمضي سريعًا. لكن أهم شيء؛ أنها تعلمت أن القوة لا تكمن في الأوقات التي مرت، بل في الخلود الذي تحفظه الذكريات داخل كل نفس.

وسادة الشيخوخة ليست فقط لحظة راحة في نهاية اليوم، بل هي صندوق أمنيات ومشاعر فارغة تبقي فاطمة مستسلمة لما مضى بينما تنير أمامها آفاق الطمأنينة التي تمنحها القدرة على الرضا عن الحياة التي عاشتها.

تعليقات