بقلم الدكتورة عفاف البديوي
لا يمكن لأي دولة أن تشق طريقها نحو التقدّم ما لم تضع التعليم في قلب مشروعها الوطني، فهو المحرك الأول لكل مسارات التنمية: اقتصادًا وصحةً وثقافةً وابتكارًا. والتجارب العالمية الناجحة تُثبت أن بداية النهضة كانت دائمًا من “مدرسة” تمتلك معلمًا مؤهلاً، ومناهج متجددة، وبيئة تعليمية تُشجع التفكير وتحفّز الخيال. فالتعليم ليس خدمة عابرة، بل استثمار طويل الأمد في الإنسان وفي مستقبل الوطن وهويته.
وفي عالم يتغيّر بسرعة مذهلة، وتتشابك فيه التكنولوجيا مع تفاصيل الحياة اليومية، لم يعد بإمكان أي أمة أن تنافس أو تنهض من دون تعليم قوي يُنتج المعرفة ويُنمّي المهارات. فالقيمة الحقيقية اليوم ليست في ثروات الأرض، بل في العقول القادرة على الابتكار، ولهذا أصبح بناء نظام تعليمي متطور ضرورة وجودية لا ترفًا تنمويًا.
كما أن التعليم هو البوابة الأوسع لتحقيق العدالة الاجتماعية. فحين تُتاح المعرفة للجميع بلا تمييز، يصبح التعليم وسيلة فعالة لرفع مستوى المعيشة وتقليص الفجوات وتمكين الفئات الضعيفة من المشاركة في الحياة الاقتصادية. وهو السبيل الأهم لكسر دائرة الفقر، وإعادة توزيع الفرص، وصناعة جيل قادر على صياغة واقعه ومستقبله بوعي وكفاءة.
ولم يعد التعليم الحديث قائمًا على التلقين، بل على تنمية التفكير النقدي، والعمل الجماعي، والبحث، والإبداع. وهذه المهارات هي لغة سوق العمل المعاصر، خاصة في ظل صعود الاقتصاد الرقمي والذكاء الاصطناعي. ومن هنا تأتي ضرورة الاستثمار في تأهيل المعلمين وتطوير أساليب التدريس، لأن المعلم هو حجر الزاوية في أي عملية إصلاح تربوي.
كذلك يمثل التعليم ركيزة أساسية لبناء الهوية الوطنية وتعزيز الانتماء. فالمناهج التي تُرسّخ قيم المواطنة والتعددية والمسؤولية تُصبح خط الدفاع الأول ضد الانقسام والتطرف، وتُسهم في تشكيل وعي قادر على التفاعل مع العالم بثقة دون أن يفقد خصوصيته الثقافية.
ومن الناحية الاقتصادية، تُظهر التجارب أن الدول التي تستثمر في التعليم تحقق معدلات نمو أعلى، لأن جودة التعليم ترتبط مباشرة بالإنتاجية، والابتكار، وقدرة السوق على خلق فرص عمل جديدة. وبالتالي فإن تمويل التعليم ليس عبئًا، بل رافعة اقتصادية ذات عائد طويل الأمد.
وفي ظل التحول الرقمي العالمي، بات دمج التكنولوجيا في التعليم ضرورة تتيح توسيع دائرة الوصول إلى المعرفة، عبر منصات التعلم الرقمي والتعليم عن بُعد والأدوات التفاعلية. غير أن هذا التحول يتطلب بنية رقمية قوية وتدريبًا متواصلًا للمعلمين لضمان جسر الفجوة التقنية وعدم ترك أحد خلف الركب.
وفي النهاية يبقى التعليم الرهان الأكثر ثباتًا لضمان مستقبل أفضل. فهو القاطرة التي تقود التنمية، والنافذة التي ينظر منها المجتمع إلى عالم سريع التغير. وإن أردنا مستقبلًا مشرقًا لأبنائنا، فعلينا أن نجعل من التعليم مشروعًا وطنيًا مستدامًا، لا يتأثر بتغيير الحكومات، بل يستمر بوصفه حقًا إنسانيًا وواجبًا وطنيًا.
فبالعلم تُبنى الأمم، وبالتعليم تزدهر، وبالاستثمار في الإنسان تبقى قاطرة التنمية في الصد
ارة دائمًا.

تعليقات
إرسال تعليق