تبدو مخاوف جماعة الإخوان المحظورة من مشروع «دولة التلاوة» أعمق بكثير من مجرد تحفظ على برنامج ديني يعرض تلاوات كبار القرّاء المصريين. فالمسألة بالنسبة للجماعة تمس جوهر صراعها مع الدولة والمجتمع على من يملك حق تقديم الخطاب الديني وصياغة الوجدان العام. حين يظهر مشروع يعيد الاعتبار لمدرسة التلاوة المصرية العريقة، ويعيد الناس إلى جمال الصوت القرآني ونقائه، يشعر التنظيم بأن أحد أهم مصادر قوته التاريخية يتعرض للاهتزاز: احتكار التأثير الديني والسيطرة على العاطفة الدينية للجمهور.
مشروع «دولة التلاوة» يعيد القرآن إلى مكانه الطبيعي: مجال للجمال والسكينة والروح، لا مجال للصراع والاصطفاف السياسي. هذا النموذج الديني الهادئ لا ينسجم مع منطق الجماعة الذى قام أساساً على تديين السياسة وتسييس الدين. فالإخوان لا ترى الدين باعتباره رسالة تهذيب أو مساحة للروح، بل تعتبره أداة لحشد الأتباع وتثبيت الولاء للتنظيم، ومن ثم فإن أي مشروع يقدم الدين بلا أجندة، وبلا خطاب تعبوي، وبلا ربط بين التدين والانخراط السياسي، يهدم الركيزة المركزية التي بنى عليها التنظيم وجوده.
في الوقت الذى يدفع فيه مشروع «دولة التلاوة» الجمهور إلى التأمل فى معاني القرآن من خلال التلاوة الخاشعة، يقدّم الإخوان خطابهم الدينى في صورة مختلفة تماماً. فالمجال الديني بالنسبة للجماعة ليس مساحة للجمال، بل ميدان للتأثير والسيطرة. الخطاب الديني كما تراه الجماعة لا يقوم على الوجدان أو السكينة، بل على إثارة المشاعر وتوجيه العاطفة باتجاه يخدم أهداف التنظيم. لذلك فإن ظهور خطاب ديني معتدل يعيد التوازن الروحي للمجتمع يعنى ببساطة انكشاف هشاشة خطابهم الذي يعتمد على الانتقاء النصي، والمبالغة في الشعور بالمظلومية، والربط الدائم بين الدين والمعارضة السياسية.
الفرق بين الخطاب الديني المعتدل وخطاب الجماعة يبدو جلياً أمام الجمهور كلما ازدهرت مدرسة التلاوة المصرية من جديد. الخطاب المعتدل يقدّم الدين بصفائه الأخلاقي والروحي، يفتح القلوب ولا يحرض العقول، ويمنع تحويل القرآن إلى شعارات. أما خطاب الإخوان فيقوم على استغلال الدين، وليس خدمته؛ وعلى تعبئة النفوس، وليس تهذيبها؛ وعلى صناعة الصراع، لا صناعة السلام. لذلك يشعر التنظيم بالتهديد حين يرى الناس تعود إلى أصوات المنشاوي والحصري وعبد الباسط ومصطفى إسماعيل، لأن هذه الأصوات تعيدهم إلى أصل الدين، بينما التنظيم قائم على إنتاج نسخة سياسية من الدين بعيدة تماماً عن جوهره.
الخوف الحقيقي لدى الجماعة أن مشروع «دولة التلاوة» يحرر الجمهور من وهم أن الدين لا يُفهم إلا من خلال وسيط تنظيمي أو جماعة تمتلك الحقيقة. المشروع يعيد الناس إلى القرآن نفسه، وإلى المدرسة المصرية الأصيلة التي كوّنت وجدان ملايين العرب والمسلمين. وهذا وحده كافٍ ليُفقد الجماعة جزءاً كبيراً من سطوتها الرمزية التي بنتها عبر عقود من التوظيف السياسي للدين.
في النهاية، «دولة التلاوة» ليس مشروعاً دينياً فحسب، بل هو مشروع ثقافي يستعيد روح الإسلام المصري المعتدل، ويُسقط تلقائياً الصورة التي حاولت الجماعة فرضها حول نفسها بوصفها المرجعية الدينية. حين يعود الدين إلى مساره الطبيعي، تنكشف حقيقة الخطاب الذي أرادت الجماعة فرضه. ولهذا تحديداً تخشاه.

تعليقات
إرسال تعليق