بقلم/نشأت البسيوني
في كل يوم تمتلئ الشوارع بوجوه كثيرة تمر بجوارنا دون أن ننتبه إليها وجوه نراها بالعين ولا نراها بالمعنى الحقيقي تمشي تحمل حكايات كاملة وأعمارا مثقلة بتجارب لا تظهر في الملامح ولا تقال في الكلام هؤلاء ليسوا شخصيات عابرة بل بشر حقيقيون يعيشون معنا نفس اللحظة ونفس المكان لكن كل واحد منهم يسير في عالمه الداخلي وحده العالم يبدو مزدحما لكنه في الحقيقة مليء بالوحدة
وحدة صامتة لا تشتكي ولا ترفع صوتها لأن أصحابها اعتادوا التعايش معها حتى صارت جزءا من تكوينهم ترى البائع الذي يقف طوال اليوم مبتسما ولا تعرف كم مرة عاد إلى بيته مثقلا بالهم ترى الموظف الذي يؤدي عمله بدقة ولا تعرف كم حلما دفنه ليحافظ على استقراره ترى الأم التي تبدو قوية ولا تعرف كم خوفا تخفيه خلف دعائها الصامت الناس لا تحب أن ترى ضعيفة لذلك تتقن فن
الإخفاء إخفاء التعب وإخفاء الخيبة وإخفاء القلق الذي يرافقهم في النوم والصحو يضحكون في العلن ويقاومون في الداخل ويتقنون لعب أدوارهم اليومية كأنهم يؤدون مشهدا طويلا لا ينتهي التصفيق فيه أبدا المجتمع علم الناس أن القيمة في المظهر لا في العمق وأن النجاح صورة لا رحلة وأن القوة صلابة لا إنسانية فكبر جيل يعرف كيف يبدو ولا يعرف كيف يشعر وكيف يشرح ألمه دون أن يساء
فهمه أو يتهم بالمبالغة فاختار الصمت أو التجاهل أو الانشغال الدائم
ومع ذلك فإن داخل كل إنسان مساحة صادقة لم تمت بعد مساحة تعرف الحقيقة وتدرك أن كل هذا التظاهر لا يلغي الاحتياج الأساسي للفهم وللأمان وللنظرة التي تقول أنا أراك كما أنت لا كما تحاول أن تبدو الحياة اليومية تمضي سريعة لا تترك وقتا للتوقف ولا تمنح فرصة للاعتراف بالتعب الناس تركض من مسؤولية إلى
أخرى ومن التزام إلى آخر حتى صارت الأيام متشابهة والوجوه متعبة والقلوب مرهقة من كثرة التحمل ومع هذا لا أحد يسأل عن الآخر بعمق لأن الجميع مشغول بالنجاة بنفسه لكن الحقيقة التي لا تقال كثيرا هي أن النجاة الفردية وهم وأن الإنسان لا يكتمل إلا بالإنسان وأن كلمة صادقة في وقتها قد تنقذ قلبا كاملا وأن نظرة اهتمام قد تعيد لشخص ما ثقته في نفسه وفي العالم الوجوه التي
نعبرها كل يوم ليست عابرة كما نعتقد بل هي مرايا خفية تعكس حال هذا الزمن زمن السرعة والضغط والمقارنة المستمرة زمن قل فيه الإصغاء وكثر فيه الحكم وقل فيه الاحتواء وكثر فيه الاستعراض وفي لحظة وعي نادرة يدرك الإنسان أن أبسط أشكال الإنسانية هي أعمقها أن ترى الآخر حقا أن تمنحه مساحة آمنة أن تعترف بتعبه دون أن تقلل منه وأن تفهم أن كل شخص يخوض
معركته الخاصة حتى لو لم يظهر عليه شيء وحين يحدث هذا الفهم يتغير كل شيء تتباطأ الخطوات يصبح الكلام أصدق وتصبح العلاقات أقل عددا وأكثر قيمة ويدرك الإنسان أن العالم لا يحتاج مزيدا من الضجيج بل يحتاج قلوبا أكثر انتباها ووجوها ترى ما وراء الوجوه وفي النهاية تبقى الوجوه التي عبرتنا شاهدة علينا إما أننا مررنا بها دون أثر أو أننا تركنا فيها شيئا جميلا والاختيار دائما
بأيدينا أن نكون عابرين عاديين أو بشرا حقيقيين يتركون أثرا صادقا في حياة من يقابلونهم حتى لو كان اللقاء لحظة واحدة

تعليقات
إرسال تعليق