حين نصبح غرباء بين من نحب

بقلم/نشأت البسيوني 

أقسى أنواع الغربة يا صديقي

ليست تلك التي تبعدك عن وطنك

بل تلك التي تزرعك غريبا في قلب كنت تظنه بيتك

أن تجلس بين وجوه تعرفها حرفا حرفا

لكنك تشعر كأنك بينهم ضيف عابر

تجاملهم بالابتسامة

وتخفي خلفها مرارة سؤال لا جواب له

متى تغيروا أم أنا الذي لم أعد أنتمي

حين نصبح غرباء بين من نحب

يصبح الصمت لغتنا المفضلة

نجيد التظاهر بالراحة

ونتحدث عن أشياء تافهة كي لا نكشف عمق الخيبة

نضحك في وجوههم

ونخفي خلف الضحكة وجعا يعرفه الله وحده

نتجنب النظر في أعينهم

لأننا نخاف أن نرى في انعكاسها المسافة التي صارت بيننا وبينهم

الغربة يا صديقي لا تبدأ بالرحيل

بل تبدأ حين لا تجد نفسك في المكان الذي أحببته

حين يصبح وجودك بينهم عادة

وصوتك مجرد ضوضاء لا تسمع

وحضورك لا يحدث فرقا

كأنك ظل يمشي ولا يرى

كم هو موجع أن تتحول العلاقات الدافئة إلى مجاملات باردة

وأن يصبح الحديث مع من تحب أشبه بزيارة رسمية إلى قلب مغلق

تفتش في ذاكرتك عن الأيام التي كانوا فيها لك وطنا

فتبكي بصمت لأنك لا تعرف متى ضاع الطريق إليهم

حين نصبح غرباء بين من نحب

نكتشف أننا كنا نحلم وحدنا

ونحب وحدنا

ونحافظ على ما مات منذ زمن دون أن ننتبه

ندرك أن الحب ليس دائما ملاذا

بل أحيانا سجنا من الذكريات التي لا تنسى

وأمان كاذب ينهار عند أول اختبار

الغربة داخل القلوب أشد من الغربة فوق الأرض

فالأولى تفقدك نفسك

أما الثانية فتفقدك المكان فقط

وحين تفقد نفسك

لن يعيدك أحد

ولا يداويك سوى الله

هناك لحظة يدرك فيها القلب أنه لم يعد مرحبا به

فيقرر الانسحاب بصمت يشبه الموت الرحيم

لا عتاب لا بكاء لا ضجيج

فقط نظرة أخيرة تختزل كل الوجع

وخطوة هادئة تقول

لقد أحببتكم بصدق لكني لم أعد أجدني بينكم

حين نصبح غرباء بين من نحب

نكتشف أن الحب لا يبنى على الذكريات وحدها

وأن الود يحتاج إلى روح تقابلك بالمثل

وأن العلاقات التي لا تروى بالمشاعر تموت عطشا مهما طال عمرها

ورغم كل هذا

نظل نحبهم في الغياب

نصلي لهم في الخفاء

ونتمنى لهم السعادة التي لم يمنحوها لنا

لأن القلوب النقية مهما أوجعتها الخيبات

لا تتقن الكره

بل تتقن الرحيل بهدوء يشبه الدعاء

وفي النهاية يا صديقي

حين نصبح غرباء بين من نحب

لا نخسرهم فقط

بل نخسر جزءا من أنفسنا معهم

لكننا نربح درسا لن ينسى

أن الأمان لا يكون في أحد

بل في الله وحده

فهو الذي إن أحببته

لم يجعلك غريبا أبدا