القائمة الرئيسية

الصفحات



بقلم/نشأت البسيوني 


لم أكن أظن أن الإنسان قد يحمل قبرا داخله ولا كنت أتصور أن تتكون في الصدر حفرة تتسع لدفن كل ما كان يحيا فيه كنت أظن أن القلب مهما أثقلته الحياة يعود ويرمم نفسه يعود ويقف يعود 


ويضرب نبضا يعاند الألم لكنني اكتشفت الحقيقة الأكثر قسوة أن القلب يشيخ من الوجع ويضعف من الخذلان ويصل إلى يوم يرفض فيه متابعة الدور الذي فرض عليه منذ الولادة

ذلك اليوم جاءني بصمت خانق بصوت لم أسمعه بأذني بل أحسسته 


في عمود روحي

كان نبضي يرتجف لا قوة بل وداعا

كانت روحي ترتعش لا خوفا بل إدراكا

وكان كل شيء من حولي يبدو وكأنه يبتعد ببطء وكأن العالم يتراجع خطوة خطوة تاركا لي مساحة كافية لدفن آخر ما كان حيا في داخلي


نعم مات القلب

مات بعد أن استنزفته الأيام بعد أن أنهكته الطعنات بعد أن صدق وجوها لم تصدقه واحتضن أرواحا لم تحتضنه وفتح أبوابا لم يدخله منها سوى الخذلان

ولم يكن موته بداية النهاية بل كان نهايات كثيرة كانت تنتظر لحظة الانطفاء


حين شعرت أن آخر نبضة قد سقطت وقفت في تلك اللحظة التي لا تنسى

لحظة أن ترى روحك تنزف بلا دم

لحظة أن تدرك أن ما كنت تعتمد عليه كقوة صار جثة

لحظة أن تفهم أن الحب الذي حلمت به لم يحمك بل قتلك ببطء حتى لم يعد فيك شيء يقدر على المقاومة


جمعت شجاعة لم أعرف من أين جاءت وقررت أن أدفنه

أجل أن أدفن قلبي

أن أضعه تحت تراب يصنعه صمتي وأغطيه بحجارة من كبريائي وأكتب على شاهده

هنا دفن إنسان صدق كثيرا فعاش قليلا


خفت من تلك الخطوة لكن الخوف لم يكن أقسى من الوجع الذي سبقه

خفت أن أعيش بلا قلب لكنني أدركت أني كنت أعيش بلا حياة منذ زمن

خفت من الفراغ لكن الفراغ كان يسكنني أصلا

دفنته وشعرت للحظة بأنني أشيع جنازة عمري


شعرت بأنني أودع نفسي التي كانت تثق وتسامح وتنسى وتحب بلا حساب

شعرت بأنني أغلق بابا لن يفتح مرة أخرى مهما حاول الزمن أن يطرقه

وبعد دفنه تغير كل شيء

صار داخلي هادئا بطريقة مخيفة


هادئا كالمدينة بعد العاصفة حيث يبقى الخراب واقفا لكن الصمت يبتلع صرخته

صار عقلي أكثر يقظة وروحي أقل حماسة وملامحي أكثر صلابة

لم أعد أرتجف من الفقد فقد فقدت ما هو أعظم

لم أعد أخاف من الوحدة فقد عشتها وأنا بين الناس

لم أعد أبحث عن الاحتواء فقد تعلمت أن أحتوي نفسي دون أن أطلب شيئا من أحد


ومن ينتظر أن أبكي لعودة القلب ينتظر عبثا

فالشيء الذي يموت طويلا لا يبعث بسهولة

والقلب الذي دفنته بيدي لن أسمح لغيري أن ينبشه

لكني رغم ذلك لم أصر حجرا

ما زلت أشعر لكن بلا سذاجة

ما زلت أقدر لكن بلا تنازل

ما زلت أتذكر لكن بلا ألم يحني ظهري


ومن فوق قبره الصغير فهمت شيئا عميقا

أن الإنسان لا يحتاج قلبا ينبض بل يحتاج روحا تتعلم كيف تنجو

وها أنا أنجو بما تبقى مني بما لم يمت بعد وبما استطعت إنقاذه قبل أن ينهار كل شيء


وأمضي الآن وعلى حافة قبر داخل صدري أقول

ربما مات القلب لكنني لم أمت معه

ربما دفنته لكنني نفضت التراب عن عقلي

وربما انتهى جزء مني

لكن الجزء الذي بقي هو الذي سيكتب النهاية كما يريد

تعليقات