القائمة الرئيسية

الصفحات


بقلم/نشأت البسيوني 


كان الليل يمشي فوق صدر الروح كأنه يحمل أكواما من الظلال وكأن كل خطوة منه تطفئ شمعة كانت تضيء في داخلي منذ زمن بعيد لم يعد في الجوف ذلك اللمع الذي يشبه النجوم ولا ذلك الدفء الذي يشبه حضنا نجا من العواصف صار القلب أرضا باردة ممتدة مكسوة بطبقات من الرماد كأن نارا عظيمة اشتعلت فيه يوما ثم انطفأت فجأة تاركة وراءها أثرا لا يزال يبكي


لم يمت القلب دفعة واحدة بل كان يحتضر في صمت يحتضر كما تحتضر زهرة في شتاء طويل بعدما نسي أحدهم أن يسقيها وكما تحتضر طيور صغيرة حين يتأخر الربيع أكثر مما يجب كل نبضة كانت تفقد جزءا من معناها وكل يوم كان يقتطع من الحياة قطعة صغيرة وينثرها في الهواء ثم يرحل لم يكن الموت حدثا مفاجئا بل كان مسيرة بطيئة ومرهقة مسيرة بدأت منذ اللحظة التي وضع 


فيها القلب ثقته في من لا يعرفون كيف يمسكون بقلوب الآخرين

كان كل شيء من حولي يلمع ببريقه المعتاد الناس تمشي الأصوات تتداخل السنين تدور لكن في العمق في تلك البقعة الضيقة التي لا يراها أحد كان شيء ينكسر كل يوم شيئا فشيئا صار القلب يشبه بابا مخلوعا من كثرة ما طرق بعنف أو يشبه جدارا سقط نصفه وبقي نصفه الآخر مسنودا على الفراغ كنت أسمع داخلي صوتا خافتا صوتا يشبه التنهد الأخير كأن الحياة تسحب نفسها من 

الأعماق ببطء وتترك الظلام يتقدم


لم تكن الخيبات وحدها من حفرت قبورها في القلب بل كل لحظة انتظرت فيها شيئا ولم يأت وكل كلمة قلتها بصدق وقوبلت بالصمت وكل خطوة اقتربت فيها من أحد فتركك في منتصف الطريق كانت الخذلات تتراكم طبقة فوق طبقة حتى صار القلب يشبه متحفا للكسور كل زاوية فيه تحمل قصة سقوط وكل شق يحمل اسما مر من هنا ثم اختفى


كانت هناك أيام كثيرة شعرت فيها أن شيئا في صدري يتحلل يتساقط مثل أوراق شجرة تقف أمام ريح لا ترحم حاولت كثيرا أن أخفي انهياري بابتسامة أن أرتب فوضاي بكلمة مطمئنة أن أتنفس بثبات رغم أن الهواء نفسه كان يؤذيني لكن القلب كان أعمق من أن يخدع وأصدق من أن يتظاهر وأرق من أن يحتمل


وفي المساء الذي اختار فيه القلب أن يموت لم يعلن شيئا لم يصرخ لم يستغث لم يطلب النجدة اكتفى بأن اتسعت فجوة الصمت بداخله حتى ابتلعت كل ما تبقى من ضوء شعرت لحظتها بأن شيئا يسقط في داخلي سقوطا بلا صوت كأن قطعة من الروح اقتلعت ببطء من موضعها ثم اختفت لم يكن ذلك السقوط عابرا كان سقوطا يشبه النهاية نهاية مرحلة طويلة عاش فيها القلب أكثر مما يجب وأحب أكثر مما يحتمل وانتظر أكثر مما يحق لإنسان أن ينتظر


دفنت القلب كما يدفن جسد ليس له أحد دفنته بصمت بلا مراسم بلا وداع بلا كلمات توضع فوق القبر فقط حفرت حفرة صغيرة في أعماقي ووضعت فيها كل ما كان ينبض كل ما كان يضحك كل ما كان يحلم وأغلقت عليه بكفن من الغياب شعرت أني وأنا أدفنه لا أدفن جزءا واحدا بل أدفن عمرا طويلا كان يركض داخله وأدفن الطرق التي مشاها والوعود التي صدقها والشفرة التي كتب بها أحلامه


لكن الغريب أن الموت لا يمحو آثار الحياة كلها يترك خلفه ظلا ورائحة واهتزازا خفيفا يشبه ارتجاف يد تمس آخر صفحة بقي من قلبي شيء صغير شيء لا يموت لا ينطفئ لا يختفي بقيت ذرة خجولة من الدفء نقطة ضوء ضعيفة لكن حقيقية كأن قلبا جديدا يحاول أن يتنفس داخل الرماد كأن الحياة لا تستسلم حتى لو سقطت على ركبتيها


وهذا الأثر الصغير هو ما يجعلني اليوم أكتب أكتب وأنا أعرف أن الكلمات أحيانا هي آخر ما ينجو أكتب لأن ما مات في القلب كان كبيرا لكنه لم يكن الأخير أكتب لأن الوجع مهما اشتد لا يستطيع أن يسرق من الروح قدرتها على النهوض حتى لو نهضت ببطء الحطام

ربما لن يعود القلب كما كان وربما لن يثق سريعا ولن يمنح نفسه بسهولة ولن يركض خلف أحد ولن ينتظر أحدا على عتبة لكنه سيعيش وسيعيد ترتيب نفسه وسيستعيد تفاصيله القديمة بشكل آخر أقل اضطرابا وأكثر حكمة وأكثر ميلا للصمت سيصبح قلبا لا يفتح بابه إلا لمن يعرف قيمة الدخول ولا يضيء إلا لمن يعرف كيف يحافظ على الضوء


ولعل أجمل ما في الأمر أن الموت في بعض الأحيان لا يكون نهاية بل بداية لشيء آخر بداية لصوت داخلي جديد بداية لخطوات مختلفة بداية لرحلة لا تشبه ما قبلها فالقلوب مهما ماتت تظل تعرف طريقها إلى النجاة ومهما دفنت تظل قادرة على أن تنبت من جديد مثل وردة خرجت من حجر أو مثل نافذة انكسرت فعاد منها الهواء أصفى


وهكذا

سيمر وقت طويل قبل أن يسترد القلب عافيته لكنه في النهاية سينهض سيتنفس سيعيد لنفسه ما سرق منه وسيصنع في داخله مقعدا جديدا للسلام سيذكر الموت كما يذكر الجرح القديم لا ليبكيه

 بل ليقول لقد عبرت ولم أنته

تعليقات