القائمة الرئيسية

الصفحات


بقلم/نشأت البسيوني 


منذ زمن بعيد لم أعد أعرف إن كنت أمشي داخل الليل أم أن الليل هو الذي صار يمشي بداخلي كان الظلام يقترب من حدودي رويدا رويدا حتى صار أوسع من نبضاتي وأعمق من جروحي وأقرب إلي من دمي الذي لم يعد يحمل حرارة الحياة كما كان يفعل ذات يوم في كل مرة أنظر فيها إلى السماء لا أرى نجمة تنقذني ولا غيمة تحمل شيئا من المطر الذي يغسل الروح بل أرى سوادا متكاثفا يبتلع الهواء والذكريات والوجوه التي رحلت دون أن تنظر خلفها

في تلك اللحظات أدركت شيئا لم أستطع الاعتراف به من قبل


أن الليل ليس زمنا خارجيا فقط

بل حالة داخلية تتسع حين يضيق القلب

كنت أظن أن القلب يتسع بالحياة لكنني اكتشفت أنه يتسع أيضا بالوجع وأن المساحات التي تنكسر في داخله تتحول مع الوقت إلى سهول واسعة تسكن فيها الخيبة وكلما زاد اتساع تلك السهول صار الليل أكبر وأكثر قدرة على السيطرة حتى أصبحت أشعر وكأن العالم كله ينكمش وأنا وحدي أتضخم بالحزن كأنني مدينة خالية تسكنها الرياح


لا أحد يعرف تماما كيف يبدأ هذا التحول كيف يتحول القلب من مكان نابض إلى أرض صامتة كل ما أعرفه أن هناك يوما ما لحظة غير معلنة ينفصل فيها الإنسان عن شيء بداخله شيء لم يكن يتخيل أنه سيفقده ربما هي الثقة ربما الإحساس بالأمان ربما القدرة على التصديق بأن الغد أجمل وربما كل ذلك معا


أذكر أنني في إحدى الليالي حاولت أن أستعيد ملامح نفسي بحثت عنها في دفاتر قديمة في رسائل منطفئة في صور باهتة في صوت ضحكة لم تعد لي لكنني لم أجد شيئا كنت أبحث عن ذاتي وكأنني أبحث عن شخص مات دون أن يترك شاهدا على قبره كلما فتحت نافذة في داخلي وجدت هواء باردا يجتاحني هواء لم يكن يخصني وكأن أحدا ما ترك الباب مفتوحا ليدخل الليل دون استئذان

ولم يكن الليل مجرد ظلام بل كان ذاكرة كاملة

ذاكرة تستعيد كل الأشياء التي حاولت دفنها


كل كلمة كسرتني

كل وعد خذلني

كل يد سحبت نفسها حين احتجت إليها

كل غياب تعلقت به روحي ثم سقطت منه كما يسقط ورق الشجر في موسم النهاية


هناك شيء مخيف في أن يصبح الليل أوسع من القلب لأنه حين يحدث ذلك لا يعود الإنسان يرى الأشياء كما هي بل كما كسرته يصبح الضوء باهتا والأصوات متعبة والوجوه بعيدة والطرق طويلة وكأن الحياة كلها تقلصت إلى شعور واحد فقط


الوحدة

الوحدة ليست أن تكون بلا أحد

بل أن تكون محاطا بالأشياء كلها ومع ذلك لا تجد من يفهمك

أن تتكلم وتسمع صدى صوتك لا ردك

أن تبكي دون أن تعرف لماذا تبكي لأن البكاء لم يعد يحتاج إلى سبب


أن تنام لكن نومك خفيف كجفن يخشى أن يغلقه فتأتي كأسوأ كوابيسك

أن تعيش لكن روحك مشدودة بخيط رقيق قد ينقطع في أي لحظة

ومع مرور الوقت لم يعد الليل مجرد زائر

صار وطنا

صرت أمشي فيه كما يمشي إنسان في مدينة يعرف شوارعها لكنه يجهل نهاياتها كنت أعرف كيف يبتلعني أعرف كم سيأخذ مني أعرف أنني لن أخرج كما دخلت ومع ذلك كنت أستسلم له كأنني أستسلم لحقيقة لا مفر منها

أحيانا كنت أشعر أن الليل يتحدث معي

لم يكن صوته مسموعا لكنه كان مفهوما

كان يقول لي


أعرف كل ما ضاع منك أعرف من خذلك ومن كذب عليك ومن تركك ومن استخدم قلبك كمعبر نحو رغباته أعرف كم مرة حاولت أن تكون قويا وكم مرة سقطت في منتصف الطريق دون أن يمد أحدهم يده إليك

وكان يقول

لا تخف فأنا أوسع من حزنك يمكنني أن أحملك

لكن الليل رغم اتساعه ليس وطنا صالحا للعيش


هو فقط مكان نلجأ إليه حين يخذلنا النهار

نهرب إليه حين تنكسر أجنحتنا

نبكي فيه ما لا نبكيه أمام أحد

نضع رؤوسنا على كتفه كأنه صديق وهو ليس بصديق لكنه الوحيد الذي لا يسألنا لماذا تعبنا

ومع كل ليلة كنت أسقط فيها كنت أشعر أن جزءا مني يتسرب إلى الظلام


كأن روحي تتحول إلى دخان

كأنني أمتد في الفراغ ولا أحد يراني

حتى صرت لا أعرف أين تنتهي حدودي وأين يبدأ الليل

ربما هذا هو الألم الحقيقي

أن يذوب الإنسان في حزنه دون أن يلحظه أحد

ومع ذلك ورغم كل هذا الظلام كنت أحيانا أرى شرارة صغيرة نقطة ضوء لا أعرف مصدرها لم تكن نجمة ولم تكن مصباحا بل كانت 


شيئا يشبه الأمل

ذلك الأمل الذي لا نطلبه لكنه يأتي

الذي لا نراه لكنه يشعر بنا

الذي لا نعرف كيف نحمله لكنه يصر على أن يرافقنا

كنت أرى تلك الشرارة وتخيفني

لأن الضوء دائما مخيف حين تعتاد الظلام

لكنني كنت أمد يدي إليها رغم خوفي

فأنا في النهاية مهما اتسع الليل إنسان يبحث عن شيء يتمسك به


وهكذا

وببطء شديد

بدأ الليل ينسحب من داخلي كما ينسحب موج البحر من على الرمال

لم يختف تماما لكنه ترك مساحة صغيرة للنهار

مساحة يمكن لقلبي أن يتنفس فيها دون بكاء

مساحة لا يزال فيها وجع لكن يمكن احتماله

مساحة يمكن للروح أن تستند إليها حتى لا تسقط

ورغم أن الليل لا يزال واسعا

ورغم أنني لا أزال أحمل داخلي ظلالا كثيرة


إلا أنني تعلمت شيئا مهما

أن القلب مهما أوسع منه الليل يظل يملك قدرة على صنع شق صغير للضوء

شق صغي

ر لكنه يكفي

يكفي ليقول للروح

ما زلنا هنا وما زال فينا ما يستحق أن يكمل الطريق

تعليقات