بقلم/نشأت البسيوني
في الليل الذي تمدد فوق الأرض ككفن واسع كانت الأرواح تمشي وهي تحمل على أكتافها أثقال السنوات تمشي دون أن تلتفت دون أن تنادي أحدا كأنها تجري جنازة صامتة لشيء لم تعرف اسمه بعد لم تكن تعرف إن كانت تدفن أم تولد تهرب أم تعود لكنها كانت
تمشي بخطوات تشبه شهقات محبوسة في صدر العالم منذ زمن بعيد الليل كان طويلا جدا طويلا كأن الله نسي أن يفتح باب الفجر وكأن الظلام قرر أن يقيم في صدورنا أكثر مما يقيم في السماء
كل شيء في تلك الليلة كان ثقيلا الهواء الظلال الذكريات وحتى الكلمات الكلمات كانت متعبة إلى حد أنها لو خرجت من فم أحدنا
لسقطت على الأرض قبل أن تكتمل وكأن اللغة نفسها أطفأت مصابيحها وتوارت خوفا من الحقيقة التي تعيش بين حروفها وحده الوجع كان واضحا يمشي معنا كما لو أنه صديق قديم يعرف بيوتنا يدخل دون إذن يجلس في ركن معتم ولا يغادر
تحت سماء يبدو القمر فيها مثل عين مطفأة كنت أشعر أن الطريق أمامي ليس طريقا واحدا بل ألف طريق يخرج من صدري وكل
طريق يقود إلى شيء مكسور كنت أمشي وكأنني أحمل داخلي جنازة قلب لم يفهم كيف صار كل هذا يحدث له قلب كان يصدق الوعود كما يصدق الأطفال القصص وكان يظن أن الخير يكفي لينجو وأن الصدق يكفي ليحب وأن الوفاء يكفي ليحفظ لكنه اكتشف أخيرا أن الواقع لا يشبه الكتب وأن البشر لا يشبهون كلماتهم وأن الوعود مجرد صور على ماء
كان الليل مليئا بصدور تنام بأجسادها بينما أرواحها تسهر واقفة عند حدود الوجع كانت هناك نوافذ تغلق لتمنع الريح لكنها لا تستطيع أن تمنع الذكرى أرواحنا كانت تتجول في الأزقة القديمة للذاكرة تبحث عن صوت ضاع عن وجه صار غبارا عن ضحكة سقطت من تقويم العمر كل شيء ضائع وكل شيء نبحث عنه رغم أننا نعرف أنه لن يعود
وكنت أدرك أن الأشياء لا ترحل من حياتنا دفعة واحدة إنها تنسحب ببطء كما ينزلق الرمل من بين أصابعنا في البداية نفقد لحظة ثم كلمة ثم نظرة ثم عادة ثم نهارا كاملا حتى نفقد أنفسنا ونحن نظن أننا لا نزال كما نحن لكننا لم نعد نحن لم نعد كما كنا ولا كما تمنينا ولا كما وعدنا نحن الذين تغيرنا نحن الذين نضجنا حتى ذبلنا وقوينا حتى انكسرنا وابتسمنا حتى جفت ابتساماتنا
وفي تلك الليلة الطويلة كنت أشعر أن الزمن يقف عند حافة قلبي يراقبني كما يراقب معلم صبور تلميذا لا يجيد سوى السقوط الزمن كان يعرف أنني أفهمه الآن أفهم قسوته وعدالته في الوقت نفسه الزمن لا يأخذ شيئا إلا ليعطينا درسا ولا يكسر شيئا إلا ليكشف لنا ما تبقى منا لكنه أيضا لا يداوي جراحنا إلا بعد أن نتعلم كيف نلمسها دون أن نصرخ
كانت الأرواح التي تمشي معي في ذلك الليل تشبه أوراقا جافة تسافر مع الريح كل روح تجر خلفها فصلا كاملا من الخذلان وحلما سقط ووجها لم يحفظ وعده كنت أسمع صدى خطوات كثيرة ليس لأن الليل مزدحم بالبشر بل لأنه مزدحم بالماضي الماضي يمشي دائما معنا يضع يده على أكتافنا يشبه ضيفا متطفلا يعرف أننا لا نستطيع طرده
ولعلك تدرك أن أسوأ ما في الوجع ليس الألم نفسه بل أن نتعلم كيف نتعايش معه التعود على الخيبة أخطر من الخيبة ذاتها أن نعتاد الرحيل أن نعتاد الفقد أن نعتاد الوحدة أن نعتاد ألا يدهشنا شيء هذا هو الموت الحقيقي الموت ليس توقف النبض الموت أن نتوقف عن الدهشة أن تصبح الحياة بالنسبة لنا مجرد مشاهد مكررة لا تثير شيئا لا توقظ شيئا لا تسأل شيئا
وفي تلك الساعات التي كانت تشبه فصلا معتما من رواية لا يريد أحد أن يكتبها شعرت أن قلبي يجلس على رصيف بعيد كأنه شخص تعب من كل شيء ولم يعد لديه القوة ليعود القلب كان يراقبنا نحن الاثنين
الجسد والروح وكأنه يقول كفاكم إنكارا أنا لست بخير لكن أحدا في الداخل لم يعد يملك القدرة على الإنصات
حتى الدموع كانت ثقيلة لم تعد تسقط بسهولة كما كانت صارت تحتاج إلى إذن من الماضي كي تنزل وكأن الشقاء يطالبنا بتفسير قبل أن يفتح بابه وربما كانت الدموع تعرف أننا لم نعد نملك طاقة للبكاء البكاء رفاهية لم يعد القلب قادرا عليها كل ما يستطيع فعله هو أن يسكت وهذا أسوأ أنواع البكاء
وفي منتصف تلك المسافة بين الليل وروح تحاول أن تجد نفسها اكتشفت أن وحدتنا ليست لأن أحدا تركنا بل لأننا تركنا أنفسنا حين صدقنا أن الحياة ستعيد لنا ما أخذته لم تعد أبدا الحياة تأخذ فقط تأخذ لأنها قاسية وتأخذ لأنها لا تثق بمن يتمسك كثيرا تأخذ لتذكرنا أننا ننتمي لما يبقى لا لما يرحل
ومع أن الليل امتد حتى حسبت أنه لن ينتهي إلا أن الروح بدأت تفهم شيئا صغيرا أننا لسنا مطالبين بأن نكون بخير طوال الوقت لسنا مطالبين بأن نرضي الجميع وأن نمنح الجميع وأن نقف للجميع لسنا مطالبين بأن نكون أبطالا نحن مطالبون فقط بأن نكون صادقين مع أنفسنا حين نتهاوى الصدق وحده يكفينا أن نقول أنا
متعب أنا خائف أنا منكسر أنا أحتاج أنفاسي لأتذكر من أنا
وفي اللحظات الأخيرة قبل أن يستسلم الليل للصمت الأخير قبل أن يتشقق الضوء في السماء قبل أن تعود الأرواح إلى أماكنها كان هناك
شيء شيء صغير جدا لكنه نقي
يستيقظ من تحت الركام لم يكن أملا تماما ولم يكن شجاعة ولم يكن رغبة في النجاة كان شيئا أقرب إلى التذكر تذكر أن الروح مهما انكسرت مهما تاهت مهما أطفأها الليل فإنها تظل تبحث عن الضوء
ولو كان الضوء مجرد شرارة صغيرة فإن الروح ستتبعها
لأن الظلام لا يربح المعركة إلا إذا توقفنا عن السير
وهكذا في الليلة التي عبرت فيها الأرواح دون أن تنادي أحدا عرفت أن السير في الظلام ليس هزيمة وأن الانكسار ليس النهاية وأن الوجع ليس عدوا وأن القلب مهما مات جزء
منه يترك دائما بابا صغيرا مفتوحا للعودة

تعليقات
إرسال تعليق