بقلمي الأديبة والمفكرة الدكتورة جعدوني حكيمة نينارايسكيلا.
في بيت حزين تتغشاه الذكريات، كانت تقيم امرأة أنهكتها الأيام. وجدت نفسها صدفة أمام رجل يدّعي القرب والحنان، رجل من جيران والدَيها القدامى. ظل يلاحقها بإصرار غريب، يردد بلا كلل
"سأكون لكِ السند، ولأطفالك الأب الحامي، سأضعهم في عينيّ كما لو كانوا أبنائي."
لم تكن امرأة عادية، بل أنثى أرملة مثقلة بخراب السنين.
عاشت بين جدرانٍ تشهد على نحيبها الصامت، حتى طرق بابها الغريب، زاعما أنه سيحرس بقاياها، ويضع أطفالها في حضنه كما لو كانوا بذور جنّته.
إلحاحه كان قيدًا يلتفّ عليها، لا حبًّا.. لما تعبت من الرفض، استسلمت، ولم تدرك أن الاستسلام بداية الغرق، لا نهاية الوحشة.
هي، التي قاومت لوقت طويل، لم تستطع الصمود أمام ضغط الأيام وثقل الوحدة. وبعد أربعة أشهر من الإلحاح، رضخت وقبلت الزواج، وإن ظل قلبها مكدودًا، يساوره الخوف على صغارها من أي قدر غامض يهدد استقرارهم.
في يوم عقد، القرآن، تغيبت أختها بسبب عملها في مدينة أخرى، لكن غيابها كان ثقيلاً كغياب الحارس عن القلعة.
انتقل الرجل إلى بيتها الضيق. بدا ملاكًا يشاركها الأعمال الصغيرة، يراجع دروس الأطفال، ويزرع في قلوبهم بعض الاطمئنان. لكن حين اتصلت بها أختها البعيدة، جاء صوته عبر الهاتف كصفعة غامضة، جملة قالها كالرصاصة استقرت في صدر الأخت. ثم الصورة التي أرسلتها الأم لهما معا، كانت عجيبة، رجل يمشط شعر زوجته ويزيّن لها كما لو أنها طفلته، هل كان حنانًا أم قناعًا؟
غرفة نوم واحدة وأحلام مثقلة بالديون القديمة. بدا لطيفًا، يساعدها في البيت، … حتى جاء اليوم الذي اتصلت فيه أختها.
سمعت صوت الرجل يرد على المكالمة قائلاً ببرود مخيف:
"إنها ابنتي… ليست زوجتي فقط."
كانت جملة غريبة، زلزلت كيان الأخت، لا سيما حين وصلتها صورة له وهو يمشط شعر زوجته ويزينه بملحقات الطفلات!
لم تهدأ الأخت ولم تسكت. حملت السرّ إلى زوجها، السيد جارفينيا. كان رجلاً من أولئك الذين لا ينظرون إلى الوجوه فقط، بل إلى ما وراءها. وقورا معروفا ببصيرته وسموّ روحه.
حين وقعت عيناه على صورة الزوج الجديد، رأى ما لم تراه عيون البشر العادية، لقد رأى حوله هالة من ظلام، دائرة سوداء لا تنكسر.
قال بصرامة القديسين:"لن أبارك زواجًا مسكونًا باللعنات." "لن أبارك هذا الزواج، ففيه شؤم عظيم."
وبعد تمحيص طويل، كشف الحقيقة لزوجته وهي أن الزوج الجديد مريض، انفصامي، متحرش بالأطفال، يجيد التنكر في هيئة ملاك.
ثم قال: "هو ليس رجلًا كما تظنين، بل روح مكسورة ومريض، يلهو بالأقنعة. قلبه مشطور بين وجه البراءة ووجه الذئب، إنه صيّاد الأطفال."
صمتت الأخت، كأن الحقيقة جبل سقط على أكتافها وخنجر انغرز في صدرها. ثم قال هو: "لا يريدها زوجة له، بل يشتهي أطفالها فقط".
بدأ السيد جارفينيا يوجّه زوجته بحكمة بالغة، فما تغني النذر: "لا تخبري أختك مباشرة، فهي لن تصدقك. قولي لها فقط أن تراقب أطفالها يوميًا، وأن تجري لهم فحوصًا دورية. فالذئب لا يهجم إلا حين ينام الحارس." إنصدمت زوجته لما قال لها ذلك أيضا، هي تصدّقه وتحبّه فقررت أن تساعد أختها وأطفالها،
منذ ذلك اليوم، صارت الحياة كحبل المشنقة؛ ظاهرها سلام وباطنها هاوية.
الأم كانت قد نامت كثيرًا، أفاقت قليلًا. فوجدت وجهها شُلّ نصفه كتمثال مكسور. لم تدرك أن كأس الماء الذي يضعه زوجها قرب سريرها، طارد للوعي وليس ماء نقيا،
والأطفال في نومهم الطفولي، صاروا مسرحا ليد خبيثة تمتد بلا رحمة.
إن الحقيقة كانت أبشع. اكتشف أن الرجل يضع مخدرا في طعام زوجته، يعطّل وعيها، ثم يتطاول على أطفالها، مفسدا براءتهم. لم تستسلم زوجة السيد جارفينيا للوضع وذهبت وأبلغت أختها أن تتفقد أطفالها بين الحين والآخر، لأن ظاهرة التحرش إنتشرت بالمدارس هذه الفترة دون أن تخبرها مباشرة خشية أن تكذّبها، وهي لا تدري أن المنحرف بدأ يتجرّأ عليها.
مرت سبعة أشهر، وبدأت العلامات التي قال عنها السيد جارفينيا أنها إذا ظهرت على الأم؛ فإن الأطفال حينها سيكونون في خطر. إرهاق غامض يبرز للعلن ونوم طويل بلا راحة… كلها إشارات إلى سمٍّ خفي يجري في عروقها.
الأخت عادت يومًا في ربيع متوتر، فوجدت العلامات كما وصفها السيد جارفينيا من قبل العيون الزائغة، الجسد المتعب، الغياب عن الذات.
حاولت أن تهمس لها “راقبي أطفالك… إن ذكور هذا الزمان صاروا يسرقون براءتهم في المدارس.”
لكن قلبها كان أعمى، معلقًا بصورة زوجها الوديع، لا بما يحدث في العتمة.
سافرت مجددا الأخت لزيارة عائلتها، ووجدت ما قاله زوجها جارفينيا قد تحقق حرفيًا. قررت إنقاذ أختها، حذرتها مرارًا، لكنها اصطدمت بجدار الإنكار.
ثم جاءت ليلة انكشف فيها المستور؛ إذ نام صديق الزوج في بيتهم الضيق، حيث لا يسع المكان إلا جسدين وأحلام صغار.
كان الفعل في ذاته علامة. قالت الأخت بصرامة: "اطرديه، فالذئب حين يدخل الحظيرة لن يخرج إلا بدم."
الأم كانت أضعف من أن تطرد، سجينة قلبها المرتجف.
كانت ليلة الربيع الملعونة، لما روت أختها الحادثة لزوجها السيد جارفينيا، كان جوابه صارمًا "اطردوه … وإلا دمّركم" لكن الأم، بين ضغط التهديد ووهج الخوف، لم تملك القرار.
مرت الأيام، وتراجعت الأم عن فكرة الطلاق بعد الضغط وطقوس الأسحار عليها ليلا ونهار، فتغيرت أحوال الأم وصارت تكره أختها زوجة السيد جارفينيا وإتهمتها أنها تود أن تفصلها وتطلقها من الحمار زوجها،
هدّأ الزوج السيد جارفينيا زوجته وقال لها :"يكفي، لقد بلّغت الأمانة وهي من إختارت طريق الهلاك، دعيها تتحمّل العواقب''.
بعد أيام تغيّر القضاء والقدر لتعود وتسامح الرجل في شهر رمضان، وكأنها تصالح شيطانها في شهر النور. حين علم السيد جارفينيا، قال لزوجته "لقد اختارت… ومن اختار الظلام، فليحترق بظلامه." "قد أديتِ واجبك. هي من اختارت طريق الهلاك."
كانت كلماته كالقدر، صافية كالنبوءة.
ولم يمض وقت طويل، خمسة أشهر حتى وقع ما كان محتوماً. لم تتناول الأم تلك الليلة المشروب المنوم والمخدر، فاستفاقت في جوف الليل، ووقع القدر.
في ليل كثيف، تسلّلت قدماه إلى سرير الصغيرة ذات الأحد عشر عامًا. صرخت الأم، ثم خرّت صامتة كغصن مكسور.
أخذت ابنتها إلى الطبيب الشرعي، لكن كان الأوان قد فات، البنت ملوثة والابن لم يسلم منه.
إتصلت الأم فجأة، بأختها زوجة السيد جارفينيا والتي كانت خاصمتها في يوم من الأيام وإعتذرت منها وقصّت عليها ما حدث معها وهي ترتجف خوفا وقد تركت البيت وفرّت نحو بيت العائلة هربا من المنحرف، وقالت لأختها بصوت متقطع الأوصال،
أنها قد ضبطت زوجها ينقضّ على ابنتها، وقد انهار عالمها. أسرعت إلى الشرطة ثم إلى الطبيب الشرعي، لكن الوقت أستنزف على آخره وتأخرت جدا. الابنة تلوثت، والابن لم ينجُ.
بعدها انهارت الأم، وفقدت وعيها، بينما الوحش فرّ هاربًا، تطارده الشرطة كظلّ لا يمسك.
حين روت الأخت للسيد لجارفينيا الخبر، لم يتفاجأ. اكتفى بابتسامة حزينة، وقال
"أنا لا أحب من يسلّمون أرواحهم للذئاب. لقد أنذرتُها. والله شاهد أني بلّغت."
ثم رفع رأسه للسماء، وتمتم: "نحن من نسل محمد الرسول صلّى الله عليه وسلّم كشف الله عنا الحجاب. نرى الحقيقة قبل وقوعها ومن كذّب كلامنا، سقط في النار التي لم يكن يراها. ويبتليه الله بعذاب لا مفرّ منه."
وأضاف: "أنا لا أحب الأشخاص الأغبياء الذين يسلّمون أعزّ ما يملكون بالغفلة وفوق كل ذلك مجانا. لقد حذرتها… وأشهد الله أني بلغت."
لازمت الأم فراش المرض وهي تتحسّر على اليوم الذي جاءها فيه النذير من السيد جارفينيا ولم تسمع كلامه وهي تردّد في نفسها: ليتني استمعت لنصيحته حينها، يا ليتني فعلت، لقد فقدت كل شيء."
وانتهت المأساة كما بدأت، امرأة بحثت عن أمان، فوقعت في فخّ الذئب. أطفال كانوا نجوماً صغيرة، فغطتهم سحابة سوداء.
والعبرة تقول: ليس كل من يطرق الباب وليّ حنان… فقد يكون شيطانًا يبتسم بوجه إنسان.
تحوّلت القصة إلى أسطورة خرافية عن الغفلة والثقة العمياء، عن قدرٍ كان يُكتب أمام العيون لكن لم يقرأه أحد.. وعن رجل صالح يدلّك على الخير وأنت تختار سبيل الغي.
فبقيت العبرة خالدة:
ليس كل من يطرق الباب وليّ نعمة… فقد يكون ذئبًا بجلد إنسان. وليس كل من ينصحك غير صادق !؟.
تعليقات
إرسال تعليق