لم أبكِ يوم رحل.
أو ربما بكيت… لكن دموعي لم تكن حزنًا خالصًا،
كانت مزيجًا لا يُسمّى،
شيئًا بين ارتياحٍ متردد، وحزنٍ يعرف أنه ليس كامل الولاء.
في الجنازة، كانوا يتهامسون عن طيب قلبه، وعن الأيادي البيضاء التي تركها خلفه.
كنت أصغي بصمت،
وأعرف جيّدًا الأماكن التي لم تلمسها أياديه،
والظلال التي أسقطها على روحي.
كان المشيعون يخطون خلف النعش ببطء،
أما أنا…
فكنت أرفع عيني نحو السماء،
أتحقق من لونها بعد أن خفَّ ثقل حضوره عن حياتي.
لم يلحظ أحد أن صدري صار أخفّ،
أن الهواء صار يدخل إلى رئتي كما لو أنني أتنفس للمرة الأولى،
أن قدمي لم تعودا تتعثّران بما كان يضعه في طريقي.
لم يكن فرحًا صاخبًا،
بل فرحًا وديعًا، متخفّيًا،
فرحًا يتسلّل بخجل وسط السواد،
ويجلس في زاوية القلب كضيف لا يريد أن يُرى.
أدركت حينها أن بعض الغياب يشبه فتح نافذة في غرفة خانقة،
وأن الموت، أحيانًا، لا يأتي ليأخذ منّا، بل ليعيد إلينا أنفسنا.
لم أبتسم.
لم أسمح لشفاهي أن تخون سري.
كنت أعلم أن لا أحد سيفهم كيف يمكن أن أجمع بين الحزن على ما كان،
والارتياح لانتهائه.
ذلك الفرح لم يكن شماتة،
ولا انتقامًا،
كان فقط استعادةً لجزء من روحي ظلّ أسيرًا في حضوره.
وحين انصرف الجميع بعد الدفن،
بقيت وحدي عند القبر،
وضعت كفي على التراب،
وهمست في صمتٍ عميق:
"أشكرك… لأنك ذهبت."
تعليقات
إرسال تعليق