صرخة وعي في زمن تبجل فيه المظاهر وتهان فيه العقول ...
آه على وجع الفؤاد، حين لا يكون الألم صراخًا، بل صمتًا يئنّ في زوايا القلب. آهٍ على حزنٍ لا يُعبّر عن نفسه بالدموع، بل بالغصّة التي تستقرّ في الحلق. حين ترى العين ما لا يليق، ويعجز اللسان عن صياغة ما يعتمل في الروح من مرارة.
رأيتُ العلم يُلقى في الشوارع، لا لأن أحدًا جحده، بل لأن أحدًا لم يلتفت إليه. رأيتُ الكتب تُعرض على الأرصفة، تتطاير حولها ذرات الغبار، كأنها تعيش عزلةً وجودية في زمنٍ أصمّ عن صوت الحكمة، وصوت الورق حين يئنّ تحت وطأة الإهمال.
كم هو مؤلم أن ترى كنوز الفكر مطروحة في زوايا مهملة، لا تليق بعظمة محتواها ولا بقدسية رسالتها، بينما تُرصّ الأحذية على رفوفٍ زجاجية مُضيئة، وتُلمّع الأرضيات تحتها، وتُمنح مساحات فاخرة، كأنها قمة الحضارة. أي حضارة هذه التي ترفع الحذاء وتُسقط الكتاب؟ أي ذائقة تلك التي تبصر في الجلد المصقول قيمةً، وتتعامى عن الفكر المصقول؟
ليست المشكلة في الحذاء، بل في ترتيب الأولويات. ليست الأزمة في الزجاج، بل في ما يُعرض عليه. ليست المفارقة بين الفقر والغنى، بل بين ما نعتبره جديرًا بالاهتمام، وما نُهمله رغم عظمته.
الكتاب ليس سلعة، بل روح ورسالة. ليس غلافًا أنيقًا، بل ضرورة إنسانية. حين يُهان الكتاب، يُهان العقل، وحين يُبجّل الحذاء، يُبجّل الجسد على حساب الروح. إنها مفارقة حضارية تُنذر بانحدار الذائقة، وتُؤلم كل من يرى في المعرفة خلاصًا، وفي الفكر نورًا، وفي الأدب رسالةً لا تموت.
الكتاب امتدادٌ لروح الإنسان، وصوتٌ يتحدث من خلف الزمن، وحوارٌ بين العقول عبر القرون. حين نُهينه، فإننا نُهين ذاكرتنا، وأحلامنا، وقدرتنا على أن نكون أكثر من مجرد مستهلكين. الكتاب لا يُلقى على الرصيف إلا حين تُعرض القيم في المزاد، ولا يغطيه الغبار إلا حين تغطي العقول طبقات اللامبالاة، ولا يُباع بثمن بخس إلا حين يُباع الضمير بثمن أغلى.
في زمنٍ تُقاس فيه القيمة بما يُلبس لا بما يُقرأ، بما يُشترى لا بما يُفهم، بما يُعرض في الواجهات لا بما يُعرض في واجهات الفكر، يصبح الكتاب غريبًا، منفيًّا، كأنّه مهاجرٌ في وطنٍ لا يعرفه.
أما أولئك الذين يبيعون الكتب على الأرصفة، فليسوا جاهلين بقيمتها، بل أكثر من يعرفها. هم الذين يُدركون أن المعرفة لا تحتاج لرفوف زجاج، بل لقلوب من نور. هم فقراء في الجيب، أغنياء في الروح، غرباء في السوق، أهلٌ في محراب الحكمة. صامتون في ضجيج المظاهر، ناطقون في صمت المعنى.
ما الذي حدث للذائقة؟ كيف صار الجلد المصقول أغلى من الفكر المصقول؟ كيف صار الحذاء رمزًا للرفاه، والكتاب رمزًا للكساد؟ كيف أصبح الرصيف مأوى للمعرفة، والواجهة مأوى للموضة؟ إنها ليست أزمة اقتصاد، بل أزمة وعي، ليست أزمة عرض، بل أزمة طلب. حين يُطلب الحذاء ويُعرض الكتاب، نكون أمام انقلاب في سلم القيم، يُقصي الفكر، ويُهمّش الروح، ويُبجّل المظهر.
المطلوب ليس أن نُهين الحذاء، بل أن نعيد للكتاب مكانته، ليس أن نُطفئ واجهات المحلات، بل أن نُضيء واجهات الفكر، ليس أن نحارب المظاهر، بل أن نوازن بينها وبين الجوهر. فلنُعد للكتاب رفوفه، لا من زجاج، بل من احترام. ولنُعد للعلم مكانه، لا في الشوارع، بل في القلوب. ولنُعد للذائقة بوصلة تشير إلى المعنى قبل المظهر، إلى الفكر قبل الثوب، إلى الإنسان قبل السلعة.
فالأمم لا تنهض بالأحذية، بل بالأفكار. لا تُخلّد بالمحلات، بل بالكتب. لا تُحترم بما تلبس، بل بما تُنتج من فكرٍ وجمالٍ ورسالة.
وفي كل كتاب مهمل على الرصيف، هناك فكرة تنتظر أن تُنقذ روحًا، وحلم ينتظر أن يُبعث، وأمة تنتظر أن تنهض. وفي كل واجهة زجاجية للأحذية، هناك سؤال يطرق الصمت: هل هذه قمة الحضارة؟ هل هذه صورة الإنسان الذي نريد أن نكونه؟ وهل هذه الذائقة التي سنورثها لأبنائنا؟
إننا لا نطالب بإغلاق المحلات، ولا بمنع الأحذية، بل نطالب بأن يُعاد للكتاب احترامه، وأن يُعاد للعلم مكانه، وأن يُعاد للفكر مجده، وأن تُعاد للذائقة توازنها، وأن تُعاد للإنسان إنسانيته.
فحين يُكرّم الكتاب، يُكرّم العقل، وحين يُكرّم العقل، تُكرّم الأمة، وحين تُكرّم الأمة، تُكرّم الحياة.
قلم الأستاذة خديجة آلاء شريف
يوم :10/08/2025
تعليقات
إرسال تعليق