القائمة الرئيسية

الصفحات

هَمسُ الزَّمَن وَتَدبيرُ اللُّطف
قراءة في الإنسان واللحظة والمآل

هل يُمكن للإنسان أن يحيا بمعزل عن الزمان؟ وهل يملك أن يُوقف عجلة الحياة حتى يُعيد ترتيب ذاته، أو يسترجع ما فاته، أو يتأهب لما سيأتي؟ في عصرٍ يتسارع فيه الإيقاع وتتنازع النفس بين الندم على ما كان والخوف مما سيكون، تُطرح إشكالية وجودية كُبرى: كيف نعيش اللحظة دون أن نُبتلى بحُزن الماضي أو قلق المستقبل؟ وهل يُمكن لوعينا أن يتحرّر من عبء التراكم الزمني، ليجد في "الآن" خلاصًا، وفي الرضا ملاذًا؟

كل لحظة تمضي هي من العمر، من طين الخلق، من وهج الأمل أو نار التوجّع. والزمن، ذاك المارد الهادئ، لا يعرف التوقف، لا يستأذن أحدًا، ولا يمنح فرصة للمراجعة أو التراجع. فكان لزامًا علينا ألا نُهدره على موائد التوافه، ولا في التأملات العاقرة، ولا في الحُزن الذي لا يُنتج إلا المزيد من الحزن. إنّ التأمل في الحياة - حين لا يقترن باليقين - يزيد أوجاعها ويُعمّق هشاشة الروح، أمّا التأمل في لطف الله، فهو نعمةٌ تشفي وتصلح، وتسند القلب حين تنحلّ حوله أسباب القوة.

اللحظة التي نحياها الآن، بكل ما فيها من فرحٍ أو وجع، هي الحقيقة الوحيدة التي نملكها. فأن نعيشها بصدق، ونملأها بما ينفع، هو في جوهره انتصار على الزمن، وتمرّد راقٍ على كل ما يُربك النفس من ضياع الماضي أو هواجس المستقبل. الماضي لن يعود، والمستقبل مجهول، أما الحاضر فهو مرآة التدبير الإلهي الذي لا يضلّ ولا يُخطئ، فإذا رفع عن القلب لطفه، أوحشتنا الحياة، وهزمتنا المخاوف، وحبسنا القنوط، وإنْ أضاء، استقامت الروح وابتسمت رغم العتمة.

كثيرًا ما نبحث عن أجوبة في الفراغ، نغوص في تفاصيل الدنيا حتى نصطدم بفراغ المعنى، وننسى أن أقرب معنى موجود هو ذاك اللطف الذي يتجلّى في تدبير الله لنا، في كل تأخيرٍ يحمل حكمة، وكل وجعٍ يفتح بابًا، وكل ضيقٍ يُمهّد لفرج. فحين نتأمل ذلك، يتحوّل وجع الحياة إلى أنينٍ مُطهّر، ويصير الصبر عبادة لا تكل، ويرتفع الأمل كما ترتفع الحروف في قصيدةٍ خالدة.

ولذلك، لا تكن أسير فكرةٍ عابرة ولا سجينا لضعفٍ زائل، بل انفض عنك غبار اليأس، وامسح دمعتك التي غسلت قلبك، وارتقِ من جديد. كن مشروعًا لا ينهار، كن أثرًا لا يُمحى، كن وعدًا يتحقق. تفاءل ولو ضاقت بك السُبل، وارضَ ولو حالت الظروف، وامضِ كما يمضي المؤمن بنور اليقين، لا بنار التردد.

الحياة لا تُعطينا ما نشتهي دائمًا، ولكنها تمنحنا ما يكفي لنكون. نخطئ، نعم، ونضعف، نعم، ولكننا نقوم ونُواصل، ونجعل من الألم مدرّجًا نصعد به، لا حفرة ندفن فيها أحلامنا. وحين نشيح عن الله وجهًا، لا نستريح، بل نضيع، ونتعثّر، ونحترق في قلقٍ لا يُشفى. أما حين نحسن الظن به، فإنّ كل شيء يتخذ منحًى آخر، أكثر سكينةً، وأجمل شكلاً، وأقوى أثرًا.

وفي خضمِّ كل هذا، يبرز الركن الذي لا يُعوّض، ذاك الدفء الذي لا يُشبهه شيء: الأهل، الوالدان، منبع البرّ، وصوت الرحمة، وجذور الحنان. كم منّا ينشغل عنهم في دوامة الحياة؟ كم منّا يؤجل الحديث معهم، ثم يجد أن الوقت قد تأخر؟ الحديث إليهم ليس واجبًا فقط، بل حاجةٌ روحية، وعبادةٌ وجدانية، وفسحة من الحياة تُذكّرنا بأننا ما زلنا بشرًا نحتاج للوصال، لا للشُغل.

اجعلهم في صدارة اهتمامك، قبل أن يغيب صوتهم، وتبقى الذكرى نادبة لا تهدأ. لا تشغلك الحياة عن أجمل ما فيها، فإن غابوا، غاب شيءٌ لا يُعوّض، ولا يُستدرك، ولا يُصلح بفعلٍ لاحق.

أما الآخرة، فهي المآل، وهي الحصاد، وهي الجائزة الكبرى لمن عرف الطريق، وسلكه رغم كل ما عصف به من تعب. فلا تجعل الدنيا تُلهيك عن الغاية، ولا تجعل المشاغل تطمس فيك البوصلة، بل اعمل، وابذر، وأخلص، واترك الأثر الذي يليق بروحك، وبما تحمله من نور وصدق.

الوقت هو رأس مالك الحقيقي، فلا تفرّط فيه في خمول، ولا تنثره على هامش العابر. الحياة، وإن قصرت، تتّسع لمن يملأها بيقين، وبأثر، وبعطاءٍ لا يُنسى. عش الحاضر كما يُرضي الله، وكما يُسعد قلبًا آخر، وكما ترتضي أن يُذكرك الناس بعد غيابك.

كل كلمة تكتبها، كل فعل تقوم به، كل لحظة تختار أن تملأها بالعطاء، هي شهادة على نبلك، على صدقك، على رؤيتك التي لا تنفصل عن الجمال، ولا تتناقض مع الصدق. أنت لست سائرًا في الطريق وحدك، بل تصنع مع الله طريقًا يُوصل، ومآلًا يُجبر، وخلودًا لا يُمحى.

قلم الأستاذة خديجة آلاء شريف 

تعليقات