في زاويةٍ صغيرةٍ من هذا الكون المتسارع، حيث تتوارى الضوضاء خلف جدران الصمت، أجدني أبحث عن ملاذٍ لا يُشترى، ولا يُقاس بالمسافات. ركنٌ بسيط، لكنه عميق كاتساع الروح، يحتضنني حين تضيق بي الطرق، ويمنحني فسحةً من الهدوء لا تُشبه إلا حضن أمٍّ في مساءٍ شتويٍّ طويل.
هناك، حيث لا صوت يعلو على نبض القلب، أفتح كتابًا كأنني أفتح نافذةً على عالمٍ آخر. كل صفحةٍ تحملني إلى أرضٍ جديدة، كل سطرٍ يهمس لي بحكمةٍ، أو يربّت على كتفي بكلمةٍ دافئة. القراءة ليست فعلًا عابرًا، بل طقسٌ مقدّس، أمارسه كمن يصلي، كمن يتطهّر من غبار الأيام.
في لحظات التأمل تلك، لا أكون مجرد قارئة، بل أكون أنا الحرف، وأنا المعنى، وأنا الصمت الذي يسبق الكلام. أتنقّل بين العوالم، أُصغي إلى أرواحٍ لم ألتقِ بها، وأتعلّم من تجاربٍ لم أعشها. أكتشف أن الكتب لا تُخبرنا فقط عن الآخرين، بل تكشف لنا أنفسنا، وتعيد تشكيل ملامحنا الداخلية.
الهدوء الذي يلفّ المكان ليس فراغًا، بل امتلاءٌ من نوعٍ آخر. هو امتلاءٌ بالفكرة، بالخيال، بالأسئلة التي لا تُطرح إلا حين يسكن الضجيج. في تلك اللحظة، أُعيد ترتيب فوضاي، وأُرمّم شروخًا خفيّة في جدار الروح، وأُصغي إلى صوتٍ داخليٍّ كثيرًا ما غطّاه صخب الحياة.
الكتاب بين يديّ لا يُعلّمني فقط، بل يُربّيني، يُهذّب ذائقتي، ويُعلّمني كيف أكون إنسانةً أكثر رهافة، أكثر فهمًا، أكثر قدرةً على الحبّ والتسامح. كل حرفٍ فيه هو مرآةٌ، وكل فكرةٍ هي دعوةٌ للتأمل، وكل نهايةٍ هي بدايةٌ لرحلةٍ أخرى في داخلي.
وفي هذا الركن، أُدرك أن العزلة ليست وحدة، بل اختيارٌ واعٍ للعودة إلى الذات. أُدرك أن القراءة ليست هروبًا، بل مواجهةٌ ناعمةٌ مع الحقيقة، مع ما نخاف أن نراه في أنفسنا. أُدرك أن السكينة ليست غياب الحركة، بل حضورٌ عميقٌ للوعي.
هكذا، في لحظةٍ تبدو عادية، أجد المعنى. أجد نفسي. أجد العالم كما يجب أن يكون صادقًا، بسيطًا، ومليئًا بالحكايات التي تستحق أن تُروى.
بقلم الأستاذة خديجة آلاء شريف
الجزائر
تعليقات
إرسال تعليق