القائمة الرئيسية

الصفحات

القلق وتشكيل الهوية البدائية في مسار الانفصال–التفرد:


--------------------------------------------------------------------------


بقلم/ د. حنان حسن مصطفي 


تضع مارجريت ماهلر القلق في قلب عملية الميلاد النفسي للطفل الإنساني، وترى أنه ليس مجرد عرض انفعالي جانبي، بل هو عنصر بنيوي يلعب دورًا تأسيسيًا في تشكّل الهوية البدائية (primitive identity)، أي الإحساس الأولي بالوجود كوحدة متماسكة. هذه الهوية لا تُبنى في غياب القلق، بل تتخلق في مواجهته، وتتشكل عبر مسار معقد يبدأ في أحضان العلاقة السيمبيوزية وينتهي في ترسيخ الذات ككيان منفصل قادر على الحفاظ على صلته بالعالم.


في المرحلة السيمبيوزية الأولى، يعيش الطفل في اندماج كامل مع الأم، حيث تقوم بدور الأنا المساعد الذي ينظم الانفعالات ويمتص المثيرات المقلقة قبل أن تتحول إلى تهديد داخلي. في هذه الفترة، يُختبر القلق بشكل ضئيل نسبيًا، وتتشكل الهوية البدائية في بيئة يغلب عليها الإحساس بالأمان المطلق. غير أن هذا الأمان ليس ثابتًا؛ إذ تبدأ ملامح التحول مع الدخول في مرحلة التمايز.


مع بدء الطفل إدراك أن الأم ليست امتدادًا له، وأن وجودها غير مضمون دائمًا، يتولد قلق الانفصال بوصفه تجربة جديدة، لا تقتصر على رد الفعل اللحظي تجاه الغياب، بل تغدو خبرة متكررة تترسخ في النواة الانفعالية للهوية. هذه المرحلة تكشف للطفل أن الأمان الذي اعتاده ليس مضمونًا، وتفتح الباب أمام أول اختبار جدي لاستقلاله النفسي الناشئ.


حين يدخل الطفل مرحلة الممارسة، ويكتسب قدرات حركية جديدة تمنحه حرية الاستكشاف والابتعاد الجسدي عن الأم، يحدث تراجع نسبي في القلق. هنا يختبر إحساسًا بالقوة والسيطرة على المسافة بينه وبين الأم، فيشعر لحظةً بأنه قادر على تدبير وجوده المستقل. لكن هذا الشعور هشّ، لأنه مستند إلى الكفاءة الحركية اللحظية أكثر من استناده إلى تمثيل داخلي مستقر للأم.


التحول الحاسم يحدث في مرحلة إعادة الاقتراب، حيث يبلغ القلق ذروته. يصبح الطفل واعيًا تمامًا لانفصاله عن الأم، ولضعفه أمام احتمال فقدانها أو انقطاع التواصل معها. هنا يظهر صراع جوهري: من جهة، رغبته في الحفاظ على استقلاله المكتسب، ومن جهة أخرى حاجته العميقة إلى استعادة القرب العاطفي والأمان الذي تمثله الأم. حتى التغييرات الطفيفة أو الغيابات القصيرة قد تستدعي ردود فعل انفصالية شديدة، تكشف هشاشة التوازن بين الاستقلال والارتباط.


هذه الأزمة إما أن تتحول إلى فرصة بنائية أو إلى منعطف مهدِّد. فإذا وفرت الأم بيئة انفعالية حاضنة تحترم استقلال الطفل وتدعم حاجته للارتباط، يُدمج القلق ضمن بنية الهوية الناشئة كخبرة يمكن تحملها والسيطرة عليها. أما إذا فشلت البيئة في احتواء هذه الحالة الانفعالية، فقد ينكص الطفل إلى أنماط بدائية من الدفاع، أهمها الانقسام، حيث ينظر إلى الأم في لحظات القرب بوصفها “كلها خير” وفي لحظات الغياب بوصفها “كلها شر”. الأخطر أن هذا الانقسام قد يمتد ليشمل صورة الذات نفسها، فيصبح الإحساس بالهوية غير متماسك وعرضة للتشقق.


عند الانتقال إلى المرحلة الختامية من الانفصال–التفرد، حيث يترسخ ثبات الموضوع الانفعالي (emotional object constancy)، يبدأ القلق في الانخفاض من حيث حدته، لكنه لا يختفي. الفرق أن القلق في هذه المرحلة يصبح منظمًا، إذ يستطيع الطفل أن يستدعي صورة داخلية مستقرة للأم حتى في غيابها، فيحافظ على إحساسه بوجودها النفسي ويحمي تماسك ذاته. بهذا المعنى، تكون الهوية البدائية قد اكتملت بوصفها إحساسًا بوجود الذات ككيان منفصل لكنه قادر على الحفاظ على صلته بالآخر الأساسي.


من منظور ماهلر، القلق في هذا السياق ليس اضطرابًا ينبغي القضاء عليه، بل هو حافز تكويني يختبر خلاله الطفل حدود ذاته، ويعيد تعريف صلته بالآخر، ويؤسس من خلاله البنية الأولية لهويته. نجاح احتواء القلق يمنحه هوية أكثر مرونة وقابلية للنمو، بينما الفشل في احتوائه يترك ندوبًا في البنية النفسية، قد تظهر لاحقًا في شكل هشاشة في الإحساس بالذات أو اضطرابات في أنماط التعلق والعلاقات.


📚 المرجع:

Mahler, M. S., Pine, F., & Bergman, A. (1975). The Psychological Birth of the Human Infant: Symbiosis and Individuation. New York: Basic Books. Chapter 14: The Epigenesis of Separation Anxiety, Basic Mood, and Primitive Identity.

                                               منقول،،،،،،،


@إشارة

تعليقات