تصريح خاص من القاهرة الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر
في كل مرة يطل فيها النجم الأردني منذر رياحنه على الشاشة، يثبت أن التمثيل بالنسبة له ليس مجرد مهنة أو وسيلة للظهور، بل رحلة متكاملة في أعماق النفس البشرية، رحلة يغوص من خلالها إلى مناطق مظلمة قد يخشاها الآخرون، لكنه يصر على كشفها بجرأة وصدق. ومع عرضه الحالي في حكاية "روحي فيك"، ثالث قصص مسلسل "55 مشكلة حب" على شاشة قناة أبو ظبي، يخوض رياحنه تحديًا فنيًا ونفسيًا استثنائيًا، مقدّمًا شخصية المريض النفسي بصورة لا تشبه القوالب التقليدية التي اعتاد الجمهور رؤيتها. لقد كان الدور بالنسبة له مغامرة فكرية وفنية في آن واحد، مغامرة جعلته يضع نفسه في مواجهة أسئلة عميقة عن العقل، الهوية، الحقيقة، والجنون. وفي حوار مطوّل على شكل سؤال وجواب، فتح رياحنه قلبه للحديث عن تفاصيل هذه التجربة، كاشفًا عن منهجه في البحث عن الهوية، وعن استعانته بالفلسفة والتحليل النفسي، وعن أصعب اللحظات التي عاشها أثناء تجسيد هذا الدور المليء بالتناقضات.
لنبدأ من البدايات.. ما الذي يشكّل بالنسبة لك المدخل الأول لأي دور جديد؟
أؤمن أن البحث عن الهوية هو المدخل الأساسي والركيزة الأولى في أي رحلة تمثيلية. لا يمكن أن أتعامل مع الدور كخطوط مكتوبة على الورق دون أن أبحث عن هوية الشخصية التي أجسدها. الهوية هي البذرة التي ينبت منها كل شيء لاحقًا: الملامح، الحركة، الانفعال، وحتى طريقة النظر إلى العالم. أما باقي التفاصيل فهي تأتي بعد ذلك كأغصان وأوراق تنمو فوق الجذع الأساسي. بدون الهوية لا وجود للشخصية، وبدونها لن يكون للأداء أي عمق حقيقي.
وكيف تعاملت مع هوية شخصية المريض النفسي في "روحي فيك" وهي شخصية يراها الآخرون فاقدة للمنطق أو العقل؟
هنا تكمن الصعوبة والجرأة معًا. كيف تبحث عن هوية لشخصية يُنظر إليها من الخارج على أنها بلا هوية؟ كان عليّ أن أضع نفسي في منطقة شديدة الالتباس. هذه الشخصية كما كتبت وارتسمت في النص لا تنتمي لمنطق مألوف ولا لعقل تقليدي. إنّها تعيش بعينها فقط، ترى ما تراه أمامها ولا تستشهد إلا بما تلتقطه هذه العين المجرّدة. لا تعترف بما وراء الأشياء ولا بما لا يمكن لمسه. وكأنها وُضعت أمام حجة غياب لكل ما هو ملموس، تعيش في قصر بعيد عن طبيعة الأشياء، ترفض التفسيرات المنطقية وتتمسك فقط بما يظهر لها بشكل مباشر. أن تعيد تشكيل هوية في مثل هذه المنطقة كان تحديًا استثنائيًا.
قلت إن تجربتك كانت رحلة إلى أعماق العقل البشري.. كيف تفسر ذلك؟
العقل الذي يظنه البعض غائبًا خلف جدران مستشفى الأمراض النفسية هو في الحقيقة عقل حاضر، ولكنه بمنطق مختلف تمامًا. لم أرد أن أتعامل مع الشخصية كجنون في صورته السطحية، بل كعقل يبحث عن معنى آخر للحياة. أردت أن أعيش التجربة من الداخل: لا كغريب يراقب مريضًا، بل كإنسان يحمل داخله أسئلة وجودية لم يجد لها إجابة إلا في مساحة يصفها الآخرون بالجنون. في هذه الرحلة اكتشفت أن الجنون ليس دائمًا غياب العقل، بل أحيانًا حضوره في صورته الأشد قسوة وصدقًا.
في بناء هذه الشخصية المعقدة، استعنت بفرويد وابن خلدون.. كيف تداخلت أفكارهما مع تجربتك؟
فرويد يرى أن اللاوعي هو الخزان الأكبر للرغبات والصراعات المكبوتة، وهو ما يصنع سلوك الإنسان بشكل أو بآخر. من هذا المنطلق نظرت إلى المريض النفسي لا كفاقد للعقل، بل كغارق في لاوعيه، كمن يسبح في بحر داخلي مليء بالصور والرغبات غير المعلنة. أما ابن خلدون فقدّم لي بعدًا آخر، إذ يرى أن الإنسان كائن اجتماعي، لا يمكن أن يُفهم خارج سياق العمران والمجتمع. وبالتالي، المريض النفسي هنا ليس حالة فردية منعزلة، بل انعكاس لأمراض المجتمع كله. الجمع بين هذين المنهجين جعل الشخصية أكثر صدقًا بالنسبة لي، فهي ليست مجرد عقل ضائع، بل عقل محاصر بين لاوعي داخلي ملتهب ومجتمع خارجي مأزوم.
وأثناء التصوير، كيف عشت هذه الحالة لحظة بلحظة؟
كنت أحاول طوال الوقت أن أحدّث عقلي من الداخل في مكان يظنه الآخرون بلا عقل. كنت أشعر وكأنني في حوار مستمر مع ذاتي، أقول لنفسي: ربما ما يصفونه بالجنون ليس سوى عقل يرى العالم من زاوية أكثر قسوة وأكثر صدقًا. حاولت أن أعيش التجربة لا كتمثيل أو تقليد، بل كحياة أخرى موازية. لم يكن الأمر سهلاً، لأنه يتطلب أن تضع نفسك تمامًا في منطقة هشّة، منطقة يختفي فيها الخط الفاصل بين الحقيقة والوهم، بين ما هو واقعي وما هو متخيّل.
بعد هذه الرحلة الصعبة، ما الذي أضافه هذا الدور إلى مسيرتك الفنية؟
أضاف لي الكثير. أشعر أنني عبرت من خلال روحي فيك إلى مساحة جديدة في التمثيل. هذا الدور أكد لي أنني لا أبحث عن السهولة ولا عن التكرار، بل عن التجارب التي تتحدى عقلي ووجداني. هو دور يبرهن أن الفن ليس إعادة إنتاج لنص مكتوب، بل بحث إنساني في العمق. هذه الشخصية جعلتني أواجه أسئلة لم أطرحها من قبل على نفسي، وجعلتني أشارك مع الجمهور تجربة لا تُنسى، تجربة تجعلك ترى أن وراء كل ابتسامة أو نظرة صامتة عالمًا كاملًا من الصراعات الداخلية.
وأخيرًا، ما هي رسالتك للجمهور بعد هذا العمل؟
رسالتي بسيطة لكنها عميقة: لا تتسرعوا في الحكم على من تصفونهم بالمرضى النفسيين أو بالمجانين. ربما يملكون من الحقيقة ما لا نجرؤ نحن على مواجهته. ربما يرون العالم من زاوية مختلفة تجعلهم أكثر صدقًا مما نظن. الجنون ليس دومًا غياب العقل، بل قد يكون العقل حين يظهر في صورته الأشد قسوة ووضوحًا. وأتمنى أن يخرج الجمهور من التجربة وهو يسأل نفسه: أين يبدأ العقل؟ وأين ينتهي؟ وهل نستطيع حقًا أن نضع حدًا فاصلًا بين العقل والجنون؟
يذكر أن مسلسل "55 مشكلة حب" هو عمل ضخم من إنتاج أحمد عبد العاطي برعاية المتحدة للخدمات الإعلامية، ويتكون من 40 حلقة مقسمة على أربع حكايات، كل حكاية في 10 حلقات وبأبطال مختلفين. وتأتي حكاية روحي فيك من تأليف أحمد عثمان، ويشارك في بطولتها إلى جانب منذر رياحنه كل من النجمة عائشة بن أحمد، والفنان نور محمود، ومعهم مجموعة كبيرة من أبرز النجوم: محمد كيلاني، سمر مرسي، فراس سعيد، هلا السعيد، مؤمن نور، محمد عبد العظيم، ريم رؤوف وغيرهم. وبأدائه في هذا العمل، يضيف منذر رياحنه إلى مسيرته محطة جديدة تبرز قدراته على الغوص في أعماق الشخصيات المركبة، ليؤكد أنه ممثل يبحث دائمًا عن الاختلاف والعمق، وليمنح جمهوره تجربة مشاهدة فريدة تجمع بين التشويق والرعب النفسي والفلسفة الإنسانية العميقة.

تعليقات
إرسال تعليق