لم يكن البيت الذي وُلدتُ فيه مكسوًّا بالحجارة فقط، بل كان مغلّفًا برائحة الياسمين، وبدفء امرأة لا تنام إلّا على نبضي. كانت أمي كل شيء، كل المعاني التي لا تكتب، وكل القصائد التي لا تُنشد. لم تكن تملك تاجًا من ذهب، لكنها كانت تملك قلبًا إذا نبض، أورق الكون.
في طفولتي، كانت تسهر بجانبي حين ترتجف أطرافي من الحمى، وتضع راحتها على جبيني وكأنها تمسح الألم بالرحمة. لا ترفع صوتها، لكنها ترفعني إلى السماء بدعائها. همست لي ذات ليلة، وأنا أقاوم الحمى: "أنا وردة الأقحوان... وعطرها لا ينطفئ." لم أفهم المعنى آنذاك، لكنني نمت على تلك الجملة كما ينام العصفور على غصن مطمئن.
كبرتُ، وصارت الحروف تأسرني. كنت أقرأ الشعر بشغف، أتنقّل بين المعلقات ودواوين العاشقين، أبحث عن أنثى تشبه أمي. لم أجد. كانت أمي أجمل من اللؤلؤ، وأصفى من الأنهار، وأحنّ من القصائد نفسها. كانت الحياة إذا ابتسمت، والوطن إذا احتضن.
ثم… جاء السفر.
سافرتُ من أجل الدراسة، وكانت تُقبّل جبيني عند كل وداع وتقول: "اذهبي، وابني ضوءك، فأنا أراكِ من بعيد".
كنت أتصل بها كل ليلة، أسمع صوتها، وأشكو تعب المحاضرات وزحمة المدينة. كانت تُخبئ تعبها عني بصوتٍ ناعم، وتُنهي المكالمة دومًا بجملة: "لا تنسي أن تلبسي دثاري حين يبرد قلبك."
ذات مساء، تلقيتُ اتصالًا غريبًا من أختي: "أمي تعبة… جدًا. لم تُخبرنا سوى البارحة. أخفت الأمر عن الجميع."
عدتُ على عجل. وصلتُ إلى المستشفى، فوجدتُها نائمة… شاحبة… لكن عطرها لم يغب. جلستُ إلى جوارها، أمسكت يدها، ففتحت عينيها بصعوبة، وهمست: "أنا بخير… طالما أنتِ تُزهِرين."
بكيتُ كأن كل سنوات الفهم والعلم تهاوت فجأة. في تلك اللحظة، شعرتُ أنني لم أكتب يومًا نصًّا صادقًا. كل كتبي، كل محاضراتي، كل شهاداتي… بدت ضئيلة أمام يدها المتعبة وهي تمسح دمعي.
جلستُ قربها وفتحت دفتري. كتبتُ كمن يصلّي، لا كمن يسرد:
"لم أجد بين كل الشعراء من يشبهك. يا من علمتني كيف أتهجى الحياة دون أن أضيع. يا من كنتِ الحنان إذا تنفّس، والحب إذا تجلّى، والوطن حين نُنفى. عذراً على تأخّري… عذراً على جهلي بكِ رغم قربكِ… سامحيني، فأنتِ سرّي، وتاجي، ونور الأكوان."
انتهيتُ من الكتابة، ثم نظرت إليها… كانت لا تزال تبتسم، كأنها تُبارك كلماتي. لم أعد أعرف هل كانت تلك لحظة وداع، أم لحظة ميلاد جديدة لي، أنا التي لم أدرك أنني كنت أعيش في ظل ملاك.
منذ ذلك اليوم، لم أعد أكتب شعراً… بل أكتب سيرة امرأة واحدة فقط. أمي… وردة الأقحوان التي لم ينطفئ عطرها بعد.
تعليقات
إرسال تعليق