القائمة الرئيسية

الصفحات

"أسرار الأحوال الشخصية".. عندما يصبح التدريب القانوني منصةً لتغيير الوعي المهني في قلب المنصورة



متابعة الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر 


في لحظة تزداد فيها حاجة الواقع القانوني إلى إعادة تعريف حقيقية لمعنى التدريب المهني، انطلقت من مدينة المنصورة شعلة فكرية وتجريبية غير مسبوقة، عنوانها "أسرار الأحوال الشخصية"، كأول برامج صالون التدريب القانوني TLL، ذلك المشروع الطموح الذي لم ينبثق فقط من فراغ، بل من رؤية تتجاوز حدود التقليد وتكسر جدران النمطية في التعليم القانوني، وقد نُظِّم البرنامج في الفترة من 12 حتى 15 يوليو 2025، جامعًا بين التأصيل الأكاديمي الصلب والتجريب العملي الفعلي، ليُعيد إلى مهنة المحاماة بريقها الحقيقي لدى العقول الشابة التي تتأهب لخوض هذا العالم الواسع.


ومنذ اليوم الأول، السبت الموافق 12 يوليو، بدا أن الحدث لن يكون مجرّد فعالية تقليدية أو تدريبًا عابرًا، بل شهادة ميلاد جديدة لفكر تدريبي شامل، حيث افتتح البرنامج الأستاذ محمد عطالله، المدير التنفيذي لصالون TLL، وهو أحد أولئك الذين نهلوا من نبع مدرسة عظيمة، خرج منها جيلٌ كاملٌ من المتميزين، وتجلّى ذلك حين أشار بكلمات خالصة إلى فضل الدكتورة أماني الحديدي، نائب العيادة القانونية بكلية الحقوق – جامعة المنصورة، تلك الشخصية التي لم تكن مجرد أكاديمية بل صانعة أجيال، فمن أراد لنفسه أن يكون محاميًا لا يُهزم أمام محكمة أو موقف، فليس أمامه سوى أن يتخرّج من بين يديها، إذ تميّزت بمنهج صارم إنساني، يجمع بين غزارة العلم وصدق التوجيه، وجعلت من طلابها سفراء للجدية والمكانة، فمنهم من أصبح مستشارًا، ومنهم من أسّس مدارس قانونية خاصة، ومنهم من عاد اليوم ليمنح ما تلقّاه للأجيال الجديدة، تمامًا كما فعل عطالله في كلمته التي حملت نَفَس الصدق وعمق التجربة حين تحدّث عن الدافع وراء تأسيس صالون التدريب القانوني، مشيرًا إلى أن افتقار محافظات مصر خارج العاصمة إلى مراكز تدريب حقيقية كان شرارة انطلاق TLL، الذي لم يُصمم ليكون مجرد حلقة دراسية، بل ليكون بديلاً مكافئًا – بل منافسًا – للمؤسسات التدريبية الكبرى في القاهرة، مؤكدًا أن دراسة القانون لا يمكن اختزالها في قاعات المحاضرات أو كتب المواد الجامعية، بل تحتاج إلى احتكاك مباشر بالواقع، إلى تفاعل حيّ مع القضايا، وإلى تدريب يُعيد بناء الطالب من الداخل، ليصبح لا مجرد دارس بل صانع للحقيقة القانونية.


وانطلقت أولى الجلسات التدريبية بقيادة الأستاذ محمد السكري، الذي بدأها بلقاء تعارفي ثريّ جمعه بالمتدربين، ناقش فيه دوافعهم الحقيقية للالتحاق بالبرنامج، وفتح أمامهم أبواب النقاش حول طموحاتهم وهواجسهم وأسئلتهم، ثم قادهم في عرض متسلسل حول عشر ركائز أساسية للتميّز في مهنة المحاماة، ركّز فيها على مهارات التواصل مع الموكل، والتعامل مع الضغط، والانضباط الشخصي، وإدارة المكتب القانوني، والقدرة على تحليل المعطى القانوني وتحويله إلى مرافعة تقنع المحكمة، وهي عناصر قد تبدو نظرية في ظاهرها، إلا أن السكري نجح في غرسها داخل العقول عبر سرد تجاربه الواقعية وأمثلة قضاياه الشخصية، إذ انتقل بعدها مباشرة إلى محور البرنامج الأهم وهو قضايا الأحوال الشخصية، ففكّك مع الحضور طبيعة النزاعات الأسرية وما تحمله من مشاعر متضاربة ومواقف إنسانية قبل أن تكون قانونية، ثم شرع في كشف أدوات التعامل مع تلك القضايا، ليس من وجهة القانون فقط بل من زاوية الوعي النفسي والاجتماعي، وقدّم للمشاركين ملفات حقيقية استخرجها من أرشيفه المهني، تم توزيعها ودراستها ومناقشتها داخل القاعة، ليتحوّل المشهد من تدريب إلى محكمة مصغّرة، ومن متدربين إلى محامين حقيقيين يخوضون أول تجربة لهم في تفكيك النص، وتأويل الوقائع، وطرح الحلول، وتقديم الرأي المدعوم بالحجة والمنطق.


وفي اليوم الثاني، الأحد الموافق 13 يوليو، ارتفعت وتيرة التدريب وبدأ البرنامج يستقرّ في وجدان المتدربين كواقع ملموس لا مجرد دراسة، حيث فُتح باب النقاش الحرّ لمراجعة ما طُرح مسبقًا، وجاءت الجلسة الثانية لتغوص أعمق في دعاوى الزوجة، حيث قدّم السكري عرضًا تفصيليًا للدعاوى التي يمكن أن ترفعها الزوجة في سياق الأحوال الشخصية، مثل الحضانة، النفقة، التمكين من المسكن، نفقة المتعة، واستعرض الحالات التي تُثير الجدل في المحاكم مثل التنازع بين النفقة والمتعة، وأثر يسار الزوج على الحكم، ثم دخل مباشرة إلى واحدة من أهم النقاط وأكثرها تعقيدًا، 


وهي دعوى نفقة الزوجة، فبدأ بتعريف النفقة ومصادرها، ثم شرح الشروط الموضوعية لاستحقاقها، والضوابط التي تحكم مدى التزام الزوج بها في حال كان معسرًا، وتطرّق إلى الجدل الفقهي والقانوني حول الزوجة العاملة أو الثرية، هل تستحق النفقة كاملة أم بنسب معينة؟ وكيف ينظر القاضي في مثل هذه الحالات؟ وقدّم أمثلة حقيقية من واقع المحاكم المصرية، ثم طلب من المتدربين تحليل إحداها عبر تقسيمهم إلى مجموعات، ليعيشوا لحظة اتخاذ القرار القانوني، وليناقشوا تفاصيل الدعوى كما لو كانوا يكتبون مذكرة دفاع حقيقية، كما وزّع عليهم نموذجًا لطلب تسوية قانونية تمهيدًا للمحاكاة القضائية المرتقبة، وهي الجلسة التي ستُختتم بها أيام البرنامج.


وجاء اليوم الثالث، الثلاثاء 15 يوليو، كخاتمة مهيبة لهذه التجربة، إذ واصل السكري شرح الجوانب المتقدّمة من دعوى النفقة، ثم انتقل إلى عرض دور مجلس التسوية في قضايا الأحوال الشخصية، شارحًا كيف يمكن لهذا المجلس أن ينهي النزاع دون اللجوء إلى ساحات القضاء، ودون أن يخسر أحد الطرفين كرامته أو حقوقه، ثم انطلقت جلسة المحاكاة التي طال انتظارها، بمشاركة المتدربين أنفسهم في تمثيل واقعي لأدوار قانونية مختلفة: محامي، قاضٍ، زوجة، ممثل لمكتب التسوية، وقدّم كل منهم ما لديه من أدوات قانونية وأسلوب مهني يعكس ما تلقّاه خلال البرنامج، بحضور الأستاذ محمد السكري، والأستاذ شادي الشافعي مدير مؤسسة شادي الشافعي وشركاه للمحاماة والاستشارات القانونية، الذي راقب الأداء وعلّق على جوانبه العملية وأثنى على الحضور واحترافيتهم في استخدام المصطلحات القانونية وسلاسة تفكيرهم وترتيب مرافعاتهم.


وفي ختام هذه الأيام الحافلة، كان الإجماع الصادق من الجميع – مدربين ومتدربين – أن هذا البرنامج لم يكن مجرد تدريب بل تجربة فريدة متكاملة، أعادت تعريف مفهوم التدريب القانوني، وجعلت من قضايا الأحوال الشخصية مادة حيّة قابلة للفهم والتطبيق، وأن مثل هذا النموذج من التدريب هو ما يحتاجه طلاب الحقوق اليوم، ليس فقط ليحفظوا القوانين، بل ليعيشوها، يفسّروها، ويطبّقوها بثقة، وأن الصالون القانوني TLL هو بداية لطريق أوسع وأعمق، ينطلق من المنصورة، ولكن عينه على مستقبل أوسع يشمل كل محافظات مصر.

تعليقات