الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر
في عالم تغزوه المشاهد المتكررة، وتغيب فيه الروح الحقيقية خلف زيف الأداء، خرجت علينا "الزلاقة 2" لا كمجرد حلقة في مسلسل، بل كلغز محكم، تتبع فيه خيطًا يقودك إلى رجل واحد… رجل وقف في منتصف الضوء، لا ليظهر نفسه، بل ليُعيد إحياء شخصية كانت على وشك الغياب… فمن هو؟ وما السر الذي يحمله؟ لنفتح هذا الصندوق المشفّر.
اللغز الأول: من هو الرجل الذي لم يمثل يوسف بن تاشفين… بل صار هو؟
من ذلك الفنان الذي لم يأتِ ليؤدي دور القائد، بل ليكون هو القائد؟ من الذي لم يستعِر عباءة التاريخ، بل نسجها من أعماقه؟ من الذي لم تُرهبه عظمة الشخصية، بل توحّد معها حتى صارت جزءًا من دمه؟ من هو الذي جعلنا نشعر بأن يوسف بن تاشفين لا يُؤدى بل يُستَحضَر؟
الإجابة:
إنه منذر رياحنه، ذلك الممثل الذي تحوّل في "الزلاقة 2" من فنان إلى بوابة زمنية تنفست من خلالها روح قائد عظيم، لقد لم يكتفِ بتجسيد الشخصية كما هي مكتوبة على الورق، بل ذهب إلى حيث لا تصل النصوص، إلى المساحة التي لا تُدرّس ولا تُلقَّن، بل تُستشعر، لقد جعل من يوسف بن تاشفين تجربة حية، صورة تمشي، وصوتًا ينبض، وجسدًا يحتوي قرونًا من الإرث الثقيل، لم يكن تمثيله إعادة رواية لقصة قديمة، بل كان نُسغًا جديدًا يُضخّ في عروقها، لقد أخذ الشخصية من الكتب ووهبها نبضًا وحركة، فصار المشاهد لا يرى "رياحنه"، بل يشعر أن القائد قد بُعث من جديد، يمشي بيننا، ينظر إلينا، يُفكّر، يتردّد، يُقرّر، يصمت، ثم يهدر كما تهدر الحقيقة حين تُقال بلا تجميل، وهكذا، في تلك اللحظة، لم نكن نشاهد مسلسلًا، بل كنا نحضر طقسًا فنيًا نقيًا من شوائب الاستعراض، لحظة أداء صافية مثل القطرة الأولى بعد جفاف دام طويلًا.
اللغز الثاني: من خاض المعركة دون أن يجرح… لكنه نزف مشاعرنا؟
من الذي امتطى الخيل لا ليتباهى بل ليحمي إرثًا؟ من الذي لم يرفع السيف فقط بل حمل همّ أمة؟ من الذي قاتل فوق الأرض… لكن انتصر داخلنا؟ من هو الفارس الذي لا يُضرب بحد السلاح، بل يُصيبك بحد الشعور؟ من الذي جعل كل لحظة على أرض المعركة تُشبه لحظة ميلاد داخلي للكرامة؟
الإجابة:
هو منذر رياحنه، الذي لم يخض معركة الزلاقة كأنها مشهد، بل خاضها كأنها حياته نفسها، وكأن كل صوت صهيل ووميض سيف فيها هو اختبار حقيقي للمعنى الذي يحمله في داخله عن البطولة، لم تكن تلك المعركة درامية فقط، بل روحية، وكأن الكاميرا قد انسحبت ووقفت فقط لتراقب ما يحدث بين رجل وتاريخه، لقد أدار المعركة بعين قائد حقيقي، لا يصيح ولا يتظاهر، بل يترجم بصمته ما لا تستطيع الحروب قوله، تقمصه الكامل جعلنا لا ننتظر الحركات بقدر ما كنا ننتظر أن نلتقط من قسمات وجهه ما يحدث في داخله، حتى لحظة الصمت بين جملتين كانت معركة بحد ذاتها، معركة بين القلب والعقل، بين الحسم والتأني، بين الدم والنُبل، لقد رأيناه يتحرّك لا كمن يؤدي دورًا على شاشة بل كمن يُسجّل موقفًا في كتاب التاريخ، لا ريب أن كل وقفة له في ساحة القتال كانت تحمل عبء القرار، وكل نظرة كانت تستدعي أجيالًا من الذكريات، لقد قاتل فينا شعورنا بالخسارة، وأحيا داخلنا حنينًا دفينًا للحق حين يُحمَل بقوة وبصيرة في آنٍ واحد، ومن هنا صار القتال في "الزلاقة 2" أكثر من مجرد تصوير لمعركة، بل شاهدًا على أن الكرامة لا تُصوّر… بل تُجسَّد.
اللغز الثالث: من خطب فلم يتكلم فقط… بل بَنى أُمّة؟
من الذي خرج من أرض القتال لا ليروي قصة النصر، بل ليزرع وعياً؟ من الذي وقف على أنقاض المعركة لا ليتفاخر، بل ليربّي؟ من الذي لم يخطب على الشاشة، بل خطب فينا؟ من الذي نطق فاهتزت الكلمة وتكوّنت الجملة كأنها نداء السماء؟
الإجابة:
إنه منذر رياحنه، الذي حين نطق بخطبة يوسف بن تاشفين بعد المعركة، لم يكن يؤدي خطابًا عاديًا بل كان يتوضأ بالكلمات ويصلي بالحروف، لقد جاء صوته كأنه ينبع من عمق الأرض، محمّلًا برائحة الدم والتاريخ والرهبة، لم يكن صوته مجرد موجة صوتية بل كان طبقة من طبقات الشخصية نفسها، لقد نطقها لا من فمه بل من صدره، من صدر رجل خرج لتوه من الحرب، ولم ينسَ في لحظة واحدة أنه ما زال مسؤولًا عن الأرواح، مسؤولًا عن الوعي، عن الناس، عن الله، عن الحقيقة، كانت الخطبة تجسيدًا لمعنى القيادة النادرة، القيادة التي لا تلوّح بالمجد بل تتّضع أمام الله وتُبجّل نعمة البصيرة، خطبته لم تكن مشهدًا بل وثيقة، تليق بشخصية تقف بين البساطة والعظمة، وحين هدأ صوته، لم يكن المشاهدون قد انتهوا من سماعها، بل كانوا قد بدأوا للتو في فهم ما قيل.
اللغز الرابع: من بكى... فصدّقنا أن التمثيل قد يُصبح صلاة؟
من الذي لم يُخرج دموعه ليرينا تأثره، بل لأنه تأثّر فعلًا؟ من الذي لم يبكِ ليؤدي مشهدًا، بل بكى لأنه كان المشهد؟ من الذي بكى فبكينا… لا تعاطفًا، بل لأننا شعرنا أنه بكى باسمنا؟
الإجابة:
إنها لحظة الدموع التي لا تُعلَّم في معاهد ولا تُستخرَج بأوامر المخرج، إنها دموع يوسف بن تاشفين، لكنها في الحقيقة دموع منذر رياحنه، دموع ممثل لم يعد يُفرّق بين الشخصية ونفسه، بين القائد والممثل، بين الدور والحقيقة، لقد بكى وفي عينيه أمة كاملة، وفي صمته ذاكرة متعبة، وفي كل اهتزازة من شفتيه تسكن خيبة قرون طويلة، لم تكن تلك الدموع تابعة لنص أو خطة تصوير، بل كانت ولادة نادرة للحظة نقية خرجت من أعمق نقطة في النفس، دموعه هزّت الكاميرا وأربكت العدسة، وجعلتنا نُدرك أن الفن حين يتطهّر من التظاهر يصبح حقيقة أكبر من الحقيقة نفسها، لقد كانت تلك اللحظة ذروة العمل، لا لأنها الأكثر درامية، بل لأنها الأكثر صدقًا، والصدق وحده في التمثيل… معجزة.
اللغز الخامس: من هو الرجل خلف العدسة الذي رأى بالروح لا بالعين؟
من هو الذي لم يُخرج مشهدًا بل أخرج رؤية؟ من الذي لم يلتقط الصورة فقط، بل جعل منها ذاكرة؟ من هو المخرج الذي لم يُدِر الكاميرا بل فتح النافذة على قلب الممثل؟
الإجابة:
إنه المبدع سامر جبر، الذي لم يكتفِ بتحريك أدوات التصوير بل حرّك أرواحنا، مخرج استطاع أن يقرأ ما بين الكلمات، ويستخرج ما في العمق لا ما يظهر على السطح، فجعل من كل لحظة في "الزلاقة 2" قصيدة مرئية، منح المسلسل بُعدًا حقيقيًا، وفهم أن يوسف بن تاشفين لا يُمكن أن يُروى إلا إذا وُجد من يُؤمن به، فكانت عدسته تُحاور الشخصية لا تُصوّرها، وتستمع للمشهد لا تُسجّله، وهو بذلك منح منذر رياحنه المساحة الكاملة ليحلق، فحلّق، ولينهار، فانهار، وليولد، فولد أمامنا القائد… لا الممثل.
تعليقات
إرسال تعليق