القائمة الرئيسية

الصفحات

مقالة زياد الرحباني الإنسان والفن الملتزم أسرار وخفايا

زِيَادُ الرَّحْبَانِيُّ: الْإِنْسَانُ وَ الْفَنُّ الْمُلْتَزِمُ.. أَسْرَارٌ وَ خَفَايَا

بقلم: فؤاد زاديكى

نُوَدِّعُ الْيَوْمَ فِي كَنِيسَةِ بِكْفَيَّا رُوحًا فَنِّيَّةً فَرِيدَةً، وَ عَقْلًا مُتَّقِدًا أَثْرَى مَشْهَدَنَا الثَّقَافِيَّ وَ السِّيَاسِيَّ بِمَا لَمْ يَسْبِقْ لَهُ مَثِيلٌ. زِيَادُ الرَّحْبَانِيُّ، الَّذِي نُلْقِي عَلَيْهِ نَظْرَتَنَا الْأَخِيرَةَ بَيْنَ الْأَهْلِ وَ الْأَصْدِقَاءِ وَ الْمَعَارِفِ، لَيْسَ مُجَرَّدَ مُوسِيقَارٍ أَوْ فَنَّانٍ، بَلْ هُوَ ظَاهِرَةٌ إِنْسَانِيَّةٌ تَعَدَّتْ حُدُودَ الْإِبْدَاعِ لِتُلَامِسَ صَمِيمَ الْوَاقِعِ الْمُعَاشِ.
تَمَيَّزَ فِكْرُ زِيَادٍ بِطَابَعٍ إِنْسَانِيٍّ عَمِيقٍ، مُغَلَّفٍ بِحِسٍّ سِيَاسِيٍّ لَا تَقْلِيدِيٍّ. لَمْ يَكُنْ رَحْبَانِيُّ النَّظَرِيَّاتِ الْفَارِغَةِ، بَلْ كَانَ فَنَّانًا يُعَبِّرُ عَنْ قَنَاعَاتِهِ بِأَدَوَاتٍ فَنِّيَّةٍ تُجْبِرُكَ عَلَى التَّفْكِيرِ وَ الِابْتِسَامِ مَعًا. رُؤْيَتُهُ لِلْحَيَاةِ كَانَتْ تَنْبُعُ مِنْ مُلَاحَظَةٍ دَقِيقَةٍ لِلتَّفَاصِيلِ الصَّغِيرَةِ، وَ قُدْرَةٍ فَائِقَةٍ عَلَى رَصْدِ التَّنَاقُضَاتِ الْبَشَرِيَّةِ وَ الاجْتِمَاعِيَّةِ. لَمْ يَكُنْ يَخْشَى نَقْدَ الْوَاقِعِ الْمُرِّ، بَلْ كَانَ يَلْتَحِمُ بِهِ، يَسْتَلْهِمُ مِنْهُ مَوَادَّهُ الْفَنِّيَّةَ، وَ يُقَدِّمُهَا بِشَكْلٍ سَاخِرٍ وَ عَمِيقٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ، مِمَّا جَعَلَ أَعْمَالَهُ تَرَنُّ فِي آذَانِ الْجُمْهُورِ وَ تَسْتَقِرُّ فِي وِجْدَانِهِمْ.

جَوَانِبُ خَفِيَّةٌ فِي شَخْصِيَّةِ زِيَادٍ

لَمْ يَكُنْ زِيَادٌ بِالشَّخْصِيَّةِ، الَّتِي تُفْصِحُ عَنْ كُلِّ خَبَايَاهَا بِسُهُولَةٍ. خَلْفَ ذَلِكَ الْهُدُوءِ الْمُعْتَادِ وَ السُّخْرِيَةِ الْلَاذِعَةِ، كَانَتْ هُنَاكَ رُوحٌ شَدِيدَةُ الْحَسَاسِيَّةِ، تَتَأَثَّرُ بِأَدَقِّ التَّفَاصِيلِ وَ تَحْمِلُ هُمُومَ الْآخَرِينَ بِصِدْقٍ بَالِغٍ. قَلِيلُونَ هُمْ مَنْ يَعْرِفُونَ عَنْ حُبِّهِ الْكَبِيرِ لِلسِّينَمَا الْكِلَاسِيكِيَّةِ، وَ كَيْفَ كَانَ يَقْضِي سَاعَاتٍ طَوِيلَةً فِي مُشَاهَدَةِ الْأَفْلَامِ الْقَدِيمَةِ، مُسْتَلْهِمًا مِنْهَا أَحْيَانًا لَقَطَاتٍ أَوْ أَجْوَاءً تُدْخَلُ فِي مَسْرَحِيَّاتِهِ وَ أَعْمَالِهِ الْمُوسِيقِيَّةِ بِطَرِيقَةٍ غَيْرِ مُبَاشِرَةٍ. كَانَ مُتَوَاضِعًا إِلَى حَدٍّ كَبِيرٍ، يَتَجَنَّبُ الْأَضْوَاءَ وَ الِاحْتِفَالَاتِ الْكَبِيرَةَ، مُفَضِّلًا الْعُزْلَةَ الْإِبْدَاعِيَّةَ أَوِ التَّوَاجُدَ فِي تَقَرُّبٍ مِنْ أَصْدِقَائِهِ الْمُقَرَّبِينَ. لَمْ يَكُنْ يُحِبُّ الِاسْتِعْرَاضَ وَ لَمْ يُبَالِ بِالْمَظَاهِرِ، فَرُوحُهُ كَانَتْ تُعَلِّقُ عَلَى الْجَوْهَرِ لَا عَلَى الْقِشْرَةِ.

زِيَادٌ الْمُوسِيقَارُ وَ الْمُلْهِمُ

لَقَدْ كَانَتْ رُوحُ زِيَادٍ مُتَمَرِّدَةً عَلَى الْقَوَالِبِ، مُتَعَطِّشَةً لِلْحُرِّيَّةِ وَ التَّعْبِيرِ الْجَرِيءِ. طِبَاعُهُ الْخَاصَّةُ، مِنْ هُدُوئِهِ الظَّاهِرِ إِلَى ذَكَائِهِ الْحَادِّ وَ سُخْرِيَتِهِ الْمُرَّةِ الْحُلْوَةِ، جَعَلَتْ مِنْهُ شَخْصِيَّةً مُحَيِّرَةً وَ جَذَّابَةً فِي عُيُونِ الْكَثِيرِينَ. كَانَتْ أَخْلَاقُهُ تَنْبُعُ مِنْ قِيمٍ إِنْسَانِيَّةٍ أَصِيلَةٍ؛ مُحِبًّا لِلنَّاسِ بِفِطْرَتِهِ، مَتَعَاطِفًا مَعَ قَضَايَاهُمْ، مُدَافِعًا عَنِ الْبُسَطَاءِ وَ الْمُهَمَّشِينَ. لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ مُشَاهِدٍ، بَلْ كَانَ جُزْءًا لَا يَتَجَزَّأُ مِنْ نَبْضِ الشَّارِعِ.
مَا لَا يَعْرِفُهُ الْكَثِيرُونَ أَنَّ زِيَادًا كَانَ يَمْتَلِكُ ذَائِقَةً أَدَبِيَّةً عَالِيَةً، وَ لَمْ يَكْتَفِ بِقِرَاءَةِ الْأَدَبِ الْعَرَبِيِّ، بَلْ تَعَمَّقَ فِي الْأَدَبِ الْعَالَمِيِّ، مُسْتَفِيدًا مِنْهُ فِي بِنَاءِ شَخْصِيَّاتِهِ وَ حِوَارَاتِهِ. كَمَا كَانَ شَغُوفًا بِالْقَهْوَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَ تُلَاحِظُ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَسْرَحِيَّاتِهِ حَيْثُ يُعْتَبَرُ فِنْجَانُ الْقَهْوَةِ رَمْزًا لِلِاجْتِمَاعِ وَ الْحِوَارِ وَ حَتَّى الْيَأْسِ. يُقَالُ أَنَّهُ كَانَ يُفَضِّلُ الْعَمَلَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَأَخِّرَةٍ مِنَ اللَّيْلِ، حَيْثُ الْهُدُوءُ وَ الصَّمْتُ يُسَاعِدَانِهِ عَلَى التَّفْكِيرِ وَ الْإِبْدَاعِ بِحُرِّيَّةٍ أَكْبَرَ. لَمْ يَكُنْ زِيَادٌ يُحَاوِلُ إِرْضَاءَ أَحَدٍ سِوَى فَنِّهِ وَ قَنَاعَاتِهِ، وَ هَذَا مَا جَعَلَ أَعْمَالَهُ تَبْقَى أَصِيلَةً وَذَاتَ جَوْهَرٍ حَقِيقِيٍّ.

إِرْثٌ بَاقٍ

سَتَخْلُدُ أَعْمَالُهُ الْفَنِّيَّةُ وَ الْمُوسِيقِيَّةُ فِي ذَاكِرَةِ الْأَجْيَالِ. مِنْ "بِلَا وَ لَاشِي شَيْ" إِلَى "فِي أَمَلٍ"، وَ مِنْ "نَزْلِ السُّرُورِ" إِلَى "لَوْلَا فَسْحَةُ الْأَمَلِ"، وَ الْكَثِيرُ مِنَ الْأَغَانِي الَّتِي حَمَلَتْ بَصَمَتَهُ الْخَاصَّةَ. كُلُّ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ لَمْ يَكُنْ مُجَرَّدَ مُوسِيقَى أَوْ كَلِمَاتٍ، بَلْ كَانَ رِسَالَةً مُكَثَّفَةً تَعْكِسُ عُمْقَ فِكْرِهِ وَ صِدْقَ الْتِزَامِهِ. لَقَدْ كَانَ فَنَّانًا مُلْتَزِمًا بِعَمَلِهِ وَ فِكْرِهِ حَتَّى النَّخَاعِ، لَمْ يُسَاوِمْ يَوْمًا عَلَى قَنَاعَاتِهِ مِنْ أَجْلِ الشُّهْرَةِ أَوِ الْمَالِ.
إِنَّهُ الْفَنَّانُ الَّذِي اسْتَطَاعَ أَنْ يُدْخِلَ الْمُوسِيقَى الْجَازَ وَ أَلْوَانًا غَرْبِيَّةً إِلَى الْأُذُنِ الْعَرَبِيَّةِ بِشَكْلٍ مُمَيَّزٍ، وَ أَنْ يَخْلُقَ جِسْرًا بَيْنَ الْأَصَالَةِ وَ الْمُعَاصَرَةِ. عَبْقَرِيَّتُهُ الْمُوسِيقِيَّةُ تَجَلَّتْ فِي أَلْحَانٍ عَبْقَرِيَّةٍ، وَ كَلِمَاتٍ سَاخِرَةٍ وَ مُؤْثِرَةٍ فِي آنٍ وَاحِدٍ، تَنَمُّ عَنْ فَهْمٍ عَمِيقٍ لِلنَّفْسِ الْبَشَرِيَّةِ وَ أَوْجَاعِهَا وَ طُمُوحَاتِهَا. وَ بَيْنَمَا نُوَدِّعُ جَسَدَهُ الْيَوْمَ، فَإِنَّ رُوحَهُ الْخَالِدَةَ وَ أَعْمَالَهُ الْبَاقِيَةَ سَتَظَلُّ حَيَّةً تُلْهِمُنَا وَ تُذَكِّرُنَا بِقِيمَةِ الْفَنِّ الْهَادِفِ وَ الِالْتِزَامِ الْإِنْسَان

تعليقات