لم تكن جدتي، لالة آمنة، مجرد امرأة عجوز تسكن معنا في البيت، بل كانت الركن الأكثر دفئًا فيه. دفءٌ لا يصنعه الموقد، ولا تُشعله نار الحطب، بل تسكبه في المكان نظراتها، كلماتها، يدها حين تلمس الأشياء، وطريقتها الهادئة في ترتيب الفوضى… تلك الفوضى التي كنت أنا وأخواتي نحب الجلوس وسطها لساعات، لا نملّ من صمتها ولا من حكاياتها.
كانت تناديني بـ"زهرتي"، وتقول دائمًا إنّ الأطفال هم الهدية التي أعاد الله بها شبَابها. أحبّتنا نحن، أحفادها، أكثر من أبنائها أنفسهم، لأنها وجدت فينا من يُشبه قلبها، لا من يُشبه وجهها.
كل يوم أعود فيه من المدرسة كان يبدو وكأنه احتفال صامت. لم يكن الأمر في الحقيبة، ولا في الدروس، بل في وجود جدتي في البيت. كانت تنتظرني هناك، أمام الموقد، مرتّبة الحطب بدقّة، كأنها تنقّي بهجتها من رماد الأيام.
كنت أراها جميلة… جمالًا لا يعرفه مرآة، بل تعرفه الروح. وجهها الأبيض النحيل، عيناها الخضراوان، خصلات شعرها المرتبة تحت وشاحها الأسود، وظهرها المستقيم رغم العمر الذي يحنّيه عادة. كانت تُشبه بطلات الحكايات، لكنها كانت حقيقية… حقيقية تمامًا.
ثم جاء يوم تغيّر فيه كل شيء.
سقطت جدتي وتعثّرت في فناء البيت وهي تنشر الغسيل، وانكسر ذراعها اليمنى. كان الألم قاسيًا، ولكني لم أرَها تئن، بل كانت تتماسك كأن الألم لا يليق بسيدته. بدت أقلّ حركة، لكنها لم تتخلَّ عن عاداتها: ما تزال تعدّ القهوة، وتلمس شعري، وتضع الحناء، وتروي الحكايات.
لكن شيئًا ما تغيّر داخلي.
كنتُ أظنها لا تُهزم، لا تتعب، لا تنكسر. كنتُ أهرب إليها من صراخ أبي، ومن عقاب أمي، ومن ارتباك طفولتي. كانت حضنًا لا يُستباح، وسقفًا لا تهده العواصف. والآن، للمرة الأولى، رأيتُها ضعيفة… ترتجف يدها وهي تلمس رأسي، لكنها تُكمل الدعاء.
في تلك اللحظة، شعرتُ بالخوف. ليس عليها فقط، بل عليّ أنا أيضًا.
ماذا لو لم تعد موجودة؟ ماذا لو لم أجد ذراعيها حين أحتاج أن أختبئ؟
تلك الليلة، لم أنم.
بدأتُ أراها بنظرة جديدة، نظرة من يفهم أن الكبار لا يعيشون إلى الأبد، وأن من نحبهم قد يرحلون دون استئذان.
لكنها لم تتغيّر… رغم كسر الذراع، ورجفة الجسد، كانت ما تزال تمسك خيوط الحكاية، وتحكيها كأن الغولة ستخرج من الموقد.
في ليالي الشتاء، كنا نلتفّ حولها؛ أنا، إخوتي، وبعض أولاد الجيران. تبدأ الحكاية من سلطانٍ غضب، وتنتهي عند فتاةٍ طارت في السماء. وبين البداية والنهاية، كنا نطير نحن أيضًا، على جناح صوتها.
كانت أجمل سيدة في عينيّ، بيضاء كصفحة كتاب جديد، على خديها حمرة خجولة لا تصنعها المساحيق، وفي يدها المرتجفة حناءٌ يعرف طريقه.
وعندما كنتُ أُخطئ، وتصرخ أمي، أو ينهال أبي بالكلمات الغاضبة، لم أكن أجد ملاذًا إلا ذراعي جدتي. كانت تفتحهما فورًا، بلا سؤال، وتغلق عليّ العالم بيدها المكسورة… وبأمانها الكامل.
ثم رحلت...
لم أفهم أول مرة أن الغياب لا يعود، وأن الدفء الذي كان يُشعل البيت لم يكن نار الحطب…
بل كانت هي.
ومنذ ذلك اليوم، كل شتاء يعود يحمل معها صورتها، وصوتها، وموقدها، وحكاية الغولة التي لم تنتهِ.
أشتاق إليها… إلى نبرة صوتها حين تقول:
"السلطان غضب لأن ملوكة طارت!"
وأشتاق أكثر إلى يدها التي كانت تمسح رأسي بالدعاء، بينما العالم خلف ظهرها يهدأ.
لالة آمنة،
يا ذاكرة الطفولة، ويا ظلّ الأمان،
ما زلتِ هنا… في الشتاء، في الدعاء، في الموقد، وفيّ.
تعليقات
إرسال تعليق