متابعة : الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر
من اللحظة الأولى، ومع كل صورة عم تنتشر، وكل همسة عم تتسرّب من خلف القضبان، القلوب خفقت، والأنفاس انحبست، والجمهور العربي بكامله وقف مصدوم، مذهول، مش قادر يصدق... منذر رياحنة بالسجن؟ بتهريب مخدرات؟ وبحكم ممكن يوصل لـ ١٠٠ سنة؟ لا، مستحيل، هيدا الحكي ما بينهضم، ما بيفوت العقل ولا القلب، لأنو مش هين ولا بسيط أبداً إنك تشوف نجم مثل منذر، اللي بعمره كان وجه الحرية والكرامة بالمشهد الدرامي، يتحوّل فجأة لصورة من خلف القضبان، بملامح قاسية، ونظرة موجوعة، وإشاعة ما إلها رحمة عم تهز جمهوره من المحيط للخليج.
عم نحكي عن فنان مش عادي، عن جبل تمثيلي اسمه منذر رياحنة، عن شخص ما وقف يوم بوجه كاميرا إلا وكان عنده شي يقوله، عن نَفَس تمثيلي مليان وجع، صدق، نبرة رجولة مخلوطة بحنيّة ما بتتشاف إلا بنجوم من طينة نادرة، فجأة، بين ليلة وضحاها، الكل صار عم يهمس: "سمعت عن منذر؟ قال تهريب مخدرات! قال حكم عليه بـ ١٠٠ سنة بالسجن بالكويت!"، والكلمة اللي كانت تمزح ببداية الحديث، صارت تصير جد بكل قلوب الناس، وصارت الأسئلة تكتر، والعيون تدور على أي معلومة تأكّد أو تنفي، بس الصور كانت كفيلة تشعل النار وتلعب بالأعصاب.
الصورة كانت موجعة، الصورة كانت أقوى من أي خبر، ومنذر بهاي الصورة ما كان نجم، ما كان فنان، كان إنسان منهار، تايه، مكسور، كأنو عم يقول بصمته: صدقوني... أنا بريء!، وأنت كمشاهد، ما بتقدر تفصل الحقيقة عن الدراما، لأن الصورة مش بس صورة... الصورة كانت موج.
بس مهلاً... لحظة وحدة... شدّوا أعصابكن، خدوا نفس عميق، لأنو الحقيقة ما كانت متل ما نُقلت، وما كان في ولا حكم، ولا محكمة، ولا تهمة، الحقيقة مختلفة تماماً، ويمكن أجمل، لأنو هيدا كلّو... تمثيل! ورا هالضجّة كلّها، كان في تحضير لدور هو الأخطر، والأقسى، والأكثر إثارة بمسيرة منذر رياحنة، بدور جريء وصادم بمسلسل "أعوام الظلام"، إخراج محمد سلامة، وتأليف ورشة الكاتبة المبدعة مريم نعوم.
منذر، اللي لمع بدور "حكيم باشا" بشهر رمضان، عم يرجع بقوة غير طبيعية بشخصية "أبو الغضب"، سجين كويتي، مش أي سجين، سجين محكوم عليه بأكثر من ١٠٠ سنة بتهم التهريب وتجارة المخدرات، وبيتحوّل من إنسان مهمّش، لمهيمن على كل صغيرة وكبيرة داخل السجن، بيصير القائد، المرعب، العقل المدبّر، بس مش بس هيك، لأنو جوّا، جوا هالشخصية في شظايا إنسان، في حنين وبراءة دفنوها السنين.
"أعوام الظلام" ما بيحكي عن سجن، بيحكي عن وجع، عن بشر بينكسروا وبيركبوا من جديد، بيحكي عن بدر، السجين التاني، اللي بيمر بتجربة مريرة وبتحول نفسي قاتل، وبمرّق سنوات من الظلم ليطلع بالأخير بريء، بس بجروح مش عم تطيب.
العمل تصويره عم يتم بين مصر والكويت، والسجن المركزي الكويتي مبني بالكامل بمصر، مشهد ورا مشهد، صرخة ورا دمعة، الكل عم يعطي أفضل ما عنده، والكل بإنتظار هالمسلسل اللي رح ينقسم لجزأين، ليتوّج واحدة من أقوى التجارب الدرامية بالسنوات الأخيرة.
والبطولة؟ مش بس منذر، الكاست مذهل: حمد العماني، خالد البريكي، فيصل العميري، إيمان الحسيني، شوق الهادي، روان العلي، محمد الحداد، عبد الله زيادة، مشاري المجبل، أحمد سعيد، والنجمة المصرية إنتصار بدور أم البطل بدر المطيري. الكل عم يلعب بمناطق صعبة، والكل عم يغامر، بس الأكيد إنو العمل رح يترك علامة، ويمكن يفتح نقاش طويل عن العدالة، عن الإصلاح، عن قسوة النظام، وعن البراءة اللي بتتأخر وبتدفع ثمنها الروح.
أما منذر رياحنة؟ فهيدا مش أول تحدي، ومش أول مرة يغوص بجُرأة بتجربة بتعمل ضجة قبل العرض، بس الفرق إنو هالمرة الضجة صارت شبه حقيقية، والتمثيل خدع الناس قبل حتى ما تنعرض أول حلقة، ونجح يلعب على أعصاب الجمهور قبل التيتر، وقبل الموسيقى، وقبل أول مشهد.
اللي صار درس... درس لقديش الفن ممكن يهز مشاعرنا، وقديش صورة وحدة ممكن تقلب الدنيا، وقديش منذر رياحنة بعده نجم بيقدر يتحكّم بكل لعبة الشعور، وكل مرة بيخلينا نصدق، ونخاف، ونغضب، وبالأخير... ننبهر.
فهل انتهت مسيرته؟ لا يا عزيزي، هالمسيرة بعد ما بلشت تشعل النار الحقيقية... مسيرة ما بتنتهي إلا لما نحكي إنو الفن مات. ومنذر، بعدو هون، و"أعوام الظلام"... مجرد بداية جديدة.
تعليقات
إرسال تعليق