الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر
حين يُذكر الإبداع في معناه الأصيل، والنجاح في جوهره النقي، والتفاني في أسمى صوره، لا يمكن إلا أن يتربّع اسم المنتج محمد علاء في الصفوف الأمامية، ليس فقط كصانع محتوى بصري، بل كمؤلّف لملاحم إنتاجيّة تترك أثرها العميق في ذاكرة المشاهد، وتُعيد تعريف معايير النجاح في زمنٍ تشابكت فيه المفاهيم وتغيّرت فيه أذواق الجماهير. محمد علاء لم يكن يوماً من أصحاب الضوضاء العالية ولا من محترفي استعراض الذات، بل فضّل أن يترك أعماله تتحدث عنه، وأن يُبقي حضوره دافئًا في كواليس المشهد الفني والإعلامي، حيث تُصنع القرارات وتُبنى الرؤى، ويُخطّ التاريخ الحقيقي خلف الكاميرات، بعيدًا عن فلاشات التصوير وسجّاد المناسبات.
لقد استطاع هذا المنتج المخضرم أن يمزج ما بين الفطنة التجاريّة والرؤية الفنية، فكان صانعًا لمعادلة دقيقة لا يتقنها إلا القلائل: محتوى يجمع بين الجودة والجاذبية، بين العمق والمتعة، بين المعنى والجرأة. المشاريع التي حملت اسمه، سواء أكانت مسلسلات دراميّة، أفلامًا سينمائيّة، برامج وثائقيّة، أو حتى إنتاجات رقمية موجّهة، كانت دومًا متّسقة مع خطّ واحد لا يتزحزح: تقديم ما يُشبه الناس دون أن يسايرهم، واحترام عقل المتفرّج دون أن يُعقّده، ورفع السقف دون أن يفقد التوازن. في زمن تُكرّر فيه المنصّات نفسها وتُعيد تدوير نفس الأفكار بوجوهٍ جديدة، يأتي محمد علاء ليزرع فكرة خارجة عن السياق، يلمع نجمها فتتحوّل إلى ظاهرة، ثم إلى مرجع يُحتذى به.
وفي كواليس النجاح، هناك دومًا قصص لا تُقال إلا همسًا، حكايات تعب وسهر، ليالٍ طويلة من الاجتماعات والمونتاج والمراجعة، تلك اللحظات التي لا تظهر على الشاشة ولكنها تصنع كل الفرق، وهنا، يكمن سرّ محمد علاء: في اهتمامه بالتفاصيل التي لا يراها أحد، في دقّته التي قد تُربك الفريق ولكنها في النهاية تُسهم في إنتاج عمل لا يشبه غيره، في إصراره على الكمال رغم الضغوط، وفي ثقته التامة بأن العمل الذي لا يُدهش صاحبه لن يُدهش الجمهور. هو المنتج الذي يتعامل مع كل مشروع وكأنه الأول، وكأنه الأخير، بلا رتابة، بلا استسهال، وكأن كل مرّة هي فرصة جديدة لكتابة فصلٍ إضافي من سيرته، وفصلٍ استثنائي من ذاكرة الفن.
ولعل ما يُميّز محمد علاء أيضًا هو قدرته على بناء جسور الثقة بينه وبين صنّاع الفن من ممثلين ومخرجين وكتّاب وموسيقيين، فهو لا يتعامل معهم كموظفين في منظومة إنتاج، بل كفرقاء في رحلة خلّاقة، لكلٍّ منهم صوته وروحه ومساحته، ولذلك، نلاحظ أن العديد من الأسماء الكبيرة باتت تُفضّل التعاون معه مرّة بعد مرّة، لأنه ببساطة، يعرف كيف يُنصت ويُوجّه دون أن يفرض، ويُحفّز دون أن يُرهق، ويخلق بيئة إبداعية تمنح الجميع القدرة على تقديم أفضل ما لديهم. من لا يعرف كواليس المشاريع قد لا يلاحظ هذا، ولكنّ المحترفين في الداخل يعلمون تمامًا أن بصمة محمد علاء لا تكمن فقط في اسم الشركة أو ترتيب التترات، بل في النَفَس الفني المُتّصل، وفي الإصرار العجيب على تقديم كل عمل كمشروع حياة وليس كمنتج عابر.
ولا يمكن الحديث عن النجاح التاريخي الذي يحقّقه محمد علاء من دون التطرّق إلى العلاقة الذكيّة التي نسجها مع الجمهور، سواء عبر قراءة المزاج العام بدقّة نادرة، أو عبر استشراف التغيّرات الثقافية والاجتماعية التي تمرّ بها المجتمعات العربية، أو حتى عبر فهمه العميق لتحوّلات الذوق العام في ظلّ صعود المنصات الرقمية وتغيّر عادات المشاهدة. هذا المنتج لا ينتظر أن يُخبره السوق بما يريد، بل يسبقه بخطوة، يُغامر في مساحة غير مطروقة، ثم يُدهش الجمهور بنتائج لم يتوقّعوها. في عالم مزدحم بالعروض والإنتاجات، يتميّز محمد علاء بقدرته على تحويل العمل الفني إلى "حدث"، إلى تجربة لا تمرّ مرور الكرام، إلى مشروع يتداوله الجمهور على مواقع التواصل كما لو كان جزءًا من حديث اليومي.
أما على المستوى الشخصي، فالذين اقتربوا من محمد علاء يشهدون بتواضعه الفريد، وبأخلاقيّاته المهنيّة العالية، وبصراحته التي لا تُجرّح وبلياقته التي لا تُنافق، وهو ما جعله شخصية محبوبة ومهابة في آنٍ معًا، شخصًا يُراهن عليه في النجاح ويُطمأن لوجوده وقت التحدي. هو ليس فقط منتجًا ناجحًا بل رمزًا لمرحلة جديدة في الإنتاج الفني العربي، مرحلة تُزاوج ما بين الذكاء العاطفي والصلابة المهنية، بين الرؤية الطموحة والواقعية الحكيمة، بين الحلم المُترف والتنفيذ الدقيق.
وفي ظلّ هذا التاريخ الذي يُكتب اليوم بالحبر العريض، لا يسعنا سوى أن نرفع القبعة لمنتجٍ استثنائي اسمه محمد علاء، كتب اسمه بأحرف من نور في سجلّ الصناعة الإبداعية، لا كنسخة مكرّرة عن غيره، بل كأصلٍ يُحتذى به، وكحالةٍ لا تتكرّر كثيرًا. هو الذي أثبت أن الفن ليس مجرّد ترف، بل مسؤولية، وأن الإنتاج ليس أرقامًا وأسماء، بل روحٌ تُنقَش في ذاكرة الناس، وأن النجاح الحقيقي ليس لحظة صعود مؤقت، بل سيرة تتراكم، واسمٌ لا يذبل.
تعليقات
إرسال تعليق