القائمة الرئيسية

الصفحات

"حين تتحول المناقشة الأكاديمية إلى حلبة استعراض: تأمل سوسيولوجي في عنف الرموز داخل الجامعة"


بقلم بوخالفة كريم باحث في علم الاجتماع -الجزائر
في أصلها، صُممت المناقشة العلمية لتكون لحظة عقلانية، تُتوّج فيها رحلة البحث بوقفة نقدية ناضجة، يتشارك فيها الطالب والمشرف والمناقشون في بناء معرفة جديدة أو تعديلها أو مساءلتها. غير أنّ ما يجري على أرض الواقع، خصوصًا في بعض الجامعات العربية، لا يعكس هذا النموذج المثالي، بل يشي بتحوّل المناقشة إلى مسرح تراجيدي يمارس فيه بعض الأكاديميين "عنفًا ناعمًا" مقنّعًا بلباس التقييم العلمي.

تُفتتح الجلسة عادةً بكلمات ترحيب دبلوماسية، ثم ما تلبث أن تنقلب إلى شخصنة، وانتقائية، وتضخيم لأخطاء هامشية. يُهاجم الطالب لا لأن عمله ضعيف بالضرورة، بل لأن أحد المناقشين جاء حاملاً تصورًا مسبقًا، أو إحساسًا دفينًا بالتفوق، أو ربما قلقًا من الطالب ذاته. في لحظة من اللحظات، يُختزل الطالب من كائن باحث إلى "جسد رمزي" يُمارس عليه التفوق الأكاديمي بشكل استعراضي، لا يهدف إلى تصحيح المسار بقدر ما يرضي حاجة ما لدى المُناقش.

يحدث هذا كثيرًا، حينما تُفهم السلطة المعرفية بوصفها امتلاكًا لا مشاركة. فنرى أستاذًا يقرأ عمل الطالب لا بعين الباحث وإنما بعين "الناقد القامع"، حيث يُستخرج الخطأ لا لبنائه، بل للسخرية منه، وتُختزل مجهودات سنوات في ملاحظة شكلية أو اقتباس ناقص. هذه ليست ممارسة علمية، بل شكل من "التحرش الرمزي"، بتعبير بيير بورديو، الذي كان يرى أن السلطة المعرفية تتحول أحيانًا إلى وسيلة لإعادة إنتاج الهيمنة بدل تفكيكها.

والأدهى، حينما تصبح المناقشة مساحة لتسوية حسابات شخصية أو مؤسساتية. يُستدعى الطالب كوسيط في حرب خفية بين المشرف وأحد المناقشين، أو بين توجه فكري وآخر، أو حتى بين جامعتين. يُسأل الطالب عن أشياء لا وجود لها في عمله، أو يُلام على ما لم يُسمح له أصلاً بتطويره. وفي كل هذا، يغيب المعنى الحقيقي للمناقشة: وهي تقويم العمل العلمي، لا تقويم "الشخص".

من الأمثلة الشائعة في هذا السياق، أن يُشكر الطالب في البداية على "المجهود"، ثم يُنهك بالسخرية من فصوله، ويُقلل من مفاهيمه، ويُحمّل مسؤولية ضعف تكوينه وكأنّ الطالب هو من أسّس النظام الجامعي. هذا التناقض يعكس أزمة ثقافية عميقة، حيث لم تُفصل بعد المعرفة عن الذات، ولا العقل عن الغرور، ولا النقد عن الإساءة.

ثقافيًا، تعكس هذه الممارسات بقايا مجتمع أبوي سلطوي، انتقل من القبيلة إلى الجامعة دون أن يتحرر من روح السيطرة. لم يتعلم بعض الأكاديميين بعد أن النقد لا يعني الإهانة، وأن النقاش ليس معركة لإثبات الذات. فالمؤسسة الجامعية، التي يُفترض أنها فضاء للارتقاء الرمزي، تحولت أحيانًا إلى مسرح للانتقام، حيث يُمارس الأكاديمي سلطته اللغوية والنفسية لا من أجل تصحيح مسار البحث، بل من أجل تثبيت مكانته، أو إشباع نرجسيته المعرفية.

وقد يحدث، في مشهد شديد التناقض، أن يُسخر من طالب اجتهد، بينما يُكرّم آخر لم يكتب سوى صفحات مكررة بعبارات ملساء، فقط لأن له ظهرًا مؤسساتيًا أو واسطة خفية. وفي هذا المشهد، تُصاب العدالة الأكاديمية بالخذلان، ويُصاب الطالب النزيه بالإحباط، ويُصاب العلم نفسه بفقدان المعنى.

هل المطلوب أن لا يُنتقد الطالب؟ أبدًا، فالنقد هو جوهر المعرفة. لكن النقد البناء هو الذي يُعلي من شأن الفكرة دون تحطيم صاحبها، هو الذي يُميز بين الخطأ والغباء، بين الهفوة البنيوية والهفوة الطباعية. هو الذي يُخرج الطالب من قاعة المناقشة أقوى فكريًا، لا منكسراً إنسانيًا.

لقد آن للجامعة أن تُعيد تعريف السلطة المعرفية: لا بوصفها سلاحًا يُشهَر في وجه الضعفاء، بل باعتبارها مسؤولية أخلاقية تجاه الأجيال القادمة. فطالب الدكتوراه ليس خصمًا، بل هو زميل مستقبلي في الحقل ذاته. وإنّ العنف الرمزي في المناقشات لا يُنتج إلا هشاشة ثقافية وتكاثرًا لنفس النموذج القامع في المستقبل.

إنّ إصلاح الجامعة يبدأ من لحظة المناقشة: حين يتحول الأستاذ من ممثل سلطة إلى مرشد فكري، وحين يُعامل الطالب لا كخَصم، بل كقيمة مضافة. فبين الاعتراف بالجهد وبين الإشارة إلى النقص، توجد مساحة إنسانية لا يعرفها إلا من عاش العلم كأخلاق، لا كاستعراض.

بقلم كريم بوخالفة
سوسيولوجي جزائري

تعليقات