بقلم الأستاذة خديجة آلاء شريف
(قصة من وحي الخيال، وأي تشابه في الأحداث محض صدفة)
في بداية مشوارها التعليمي، التحقت "نجاة" بمدرسةٍ ابتدائية نائية، تحمل بين يديها حقيبةً من الأحلام، وقلبًا مفعمًا بالحماسة. لم تكن تمتلك الكثير من الخبرة، لكن حضورها الهادئ وهيبتها الأخلاقية جعلتاها محط احترام الطاقم وزملائها.
تميّزت نجاة بالانضباط في تحضير الدروس، والمتابعة الدقيقة لتلاميذها، فاستطاعت أن تُكوِّن علاقة أبوية صادقة معهم. كانوا يرون فيها الأخت الكبرى، والمربية الحنون. ورغم حداثة عهدها بالمهنة، بدأ يسطع نجمها داخل المدرسة.
ومع اقتراب نهاية السنة الدراسية، أصدرت المديرة تعليمة عامة:
"على كل المعلمين تنظيم نشاط تربوي ترفيهي للمشاركة في حفل التخرج السنوي."
بادرت نجاة بتحضير عرضٍ مسرحي راقص يحمل رسالة إنسانية، يشارك فيه مجموعة من تلميذاتها. ووسط هذا التحضير، لمعت تلميذة هادئة الطباع، تدعى "سناء"، بشخصيتها المهذبة وتفوقها الدراسي اللافت. كانت سناء دائمًا الأولى في صفها، لم تُعرف عنها شقاوة أو تقصير. كانت تخفي في عينيها سكونًا نادرًا، ونوعًا من النضج المبكر.
لم يسبق لنجاة أن رأت والديها. فقط كانت تسمع أن والدها يعمل لساعات طويلة، ووالدتها ربة بيت لا تغادر المنزل، منشغلة برعاية طفلين آخرين.
شرعت التلميذات في التدريبات اليومية، تتعلم كل واحدة منها خطوات العرض، الحركات الراقصة المتناغمة، ومعاني الحوار. سناء كانت في دور “الأميرة”، الشخصية المحورية، وكانت تؤدي دورها في التدريب بانضباط وصبر.
حل اليوم المنتظر. ازدانت المدرسة بألوان الزينة، وانتشرت البالونات عند البوابة، وتعالت زغاريد الأمهات داخل قاعة العرض. امتلأت المقاعد بالحضور: أولياء، معلمات سابقات، ضيوف شرف من البلدية والأمن المحلي، وجلس الجميع في ترقب لبداية الحفل.
تعاقبت الفقرات بنجاح. وعندما حان وقت المسرحية، خرجت الفتيات إلى خشبة العرض، كفراشات ساحرات، بثياب ملونة ووجوه باسمة. تتوسطهن سناء، ترتدي فستانًا أبيض طويلًا مرصّعًا بحبات لؤلؤ لامعة، وتضع على رأسها تاجًا فضيًا ينبض برونقه تحت أضواء المسرح. شعرها الأشقر مسدول بانسيابية على كتفيها، تخطو في ثقة وأناقة.
انطلقت الموسيقى... لكن ما حدث بعدها كان مغايرًا لكل التوقعات.
بدلًا من الحركات التي دُربت عليها، راحت سناء تؤدي حركات غريبة. رقصات سريعة، مبالغ فيها، ملتوية، أشبه بعرض تعبيري حرّ. انقسم الجمهور بين ضاحك ومندهش. المعلمة نجاة ارتبكت، وقفت مكانها مذهولة، تنظر ولا تفهم. الفتيات الأخريات تضعضعن، وتسارعت أخطاؤهن بسبب اضطراب القائدة، وانتهى العرض إلى فوضى.
قامت المديرة من مقعدها غاضبة:
ـ "أوقفوا العرض فورًا!"
ثم تقدّمت إلى نجاة وقالت أمام الحضور:
ـ "ما هذا يا معلمة نجاة؟ أهذه هي المهنية؟ تهريج ومسرحية مشوّهة؟!"
أجابت نجاة بنبرة قلقة ووجه مصدوم:
ـ "أقسم أنني لا أفهم ما حدث! سناء لم تفعل شيئًا كهذا من قبل!"
ـ "سوف تتحملين المسؤولية كاملة. أما التلميذة... فسنرى في أمرها."
تدخلت نجاة بسرعة، وقد استجمعت رباطة جأشها:
ـ "أرجوكِ سيدتي، دعينا نستمع إليها أولًا... قد يكون وراء ما فعلته شيء يستحق الفهم لا الحكم."
بعينين مترددتين، أذنت المديرة بإحضار سناء. ودخلت الطفلة بخطوات هادئة، ملامحها بريئة، نظراتها صادقة.
سألتها المديرة بصرامة:
ـ "ما الذي جعلك تؤدين عرضًا مغايرًا؟ من سمح لك؟"
نظرت سناء للمديرة بجرأة هادئة، وقالت:
ـ "أنا فقط... أردتُ أن تفهمني أمي."
سادت القاعة همهمة، قالت المديرة بحدة:
ـ "ماذا تعنين؟
رفعت سناء يدها الصغيرة نحو الجمهور، وأشارت إلى امرأة تجلس في الصف الأخير، تحت عباءة بيضاء، تضع على أذنيها سماعة، لكنها لم تتحرك طيلة العرض.
ـ "أمي... لا تسمع. ولا تتكلم. هي صمّاء بكماء منذ طفولتها. طوال حياتي، لم تستطع أن تشاركني في نشاط مدرسي واحد. فقررت اليوم أن أرقص بلغة جسد تفهمها... لغة الإشارة، بطريقتي."
ارتبكت وجوه الجميع، وساد صمت خاشع. حتى المديرة أطرقت رأسها. تقدّمت نجاة، واحتضنت سناء بقوة، وقالت بصوت متهدّج:
ـ "أنتِ لم تخطئي يا صغيرتي... بل علّمتِنا درسًا لن ننساه."
انهال التصفيق، وقف الجميع احترامًا لسناء. أعلنت المديرة عن تتويجها بـلقب "الطالبة المثالية"، تقديرًا لتفوقها، وإنسانيتها، وبرّها بأمها.
تعليقات
إرسال تعليق