متابعة الكاتب الصحفي والناقد الفني عمر ماهر
في يَومٍ تَتَضَافَرُ فيهِ المَشاعِرُ حول العالَم، وتَتَوَحَّدُ القلوبُ على إِيقاعِ الذِّكرى والامتِنان، لم تَتَوانَ الفنّانة المصريّة سيمون عن مُشَارَكَةِ جُمهُورها بمَلامِحٍ صادِقَةٍ من الذّاكرة، مَنسُوجَةٍ بخُيوط الحنين، ومَطْرُوزَةٍ بماءِ الوفاء. كلماتُها التي نَشَرَتْهَا عبرَ منصّاتِ التّواصُلِ الاجتماعيّ، لم تَكُن تَقليديّةً، ولا تَحمِلُ طَابعًا احتفاليًّا سَطحيًّا، بل كَانَتْ خُطبةَ وَجعٍ ناعِم، ومَقالةَ شُكرٍ أَبَدِيٍّ لرَجُلٍ لم يُغادِرْهَا، حتّى بعدَ رحيلِهِ الجَسَديّ.
بِكلماتٍ مُفعَمَةٍ بِالصِّدقِ... سِيمون تُخَاطِبُ طَيفَ وَالدِهَا
افتَتَحَتْ سِيمون مَقالَ قَلبِهَا بِعبارةٍ تَتَفَجَّرُ مِنهَا المَشاعِر، قائلَةً:
"كَانَ أَبِي أَعْظَمَ أَبٍ فِي العَالَمِ... لَمْ أَحْزَنْ يَوْمًا مَعَهُ، وَلَا بَكَيْتُ... بَلْ كَانَ هُوَ سِرَّ قُوَّتِي وَثَبَاتِي وَسَعَادَتِي... رُوحُهُ دَائِمًا مَعِي."
بهذهِ الجُملِ القليلةِ ظاهِرًا، العَظِيمَةِ مَعْنًى، أَسْدَلَتْ سِيمون سِتَارَ الذَّاكِرَةِ لتُرِي الجُمُهُورَ مَا لَا يُرَى... وَالدٍ كانَ الحِضنَ، وَالصَّدَى، وَالأَمَانَ، وَالأُفُق. وَكَيفَ لا، وَهِيَ تَتَحَدَّثُ عَن رَجُلٍ لَمْ يَكُن مُجرَّدَ أَب، بَلْ نِصفَ قَلبٍ، وَكُلَّ سَنَدٍ.
صُورَتُهَا كَانَت أَمَامَهُ... وَالإِيمَانُ كَانَ فِي عَيْنَيْهِ
مِن أَجْمَلِ مَا كَتَبَتْهُ سِيمون فِي ذِكرَى وَالدِهَا، ذِكرُهَا لتَفاصِيلَ حَمِيمَةٍ تُدْرَكُ بِالقَلبِ قَبلَ العَينِ، قائلةً:
"كَانَ يُحِبُّنِي حُبًّا لَا مَثِيلَ لَهُ، مُنْذُ وِلَادَتِي وَحَتَّى آخِرِ لَحْظَةٍ، وَضَعَ صُورَتِي أَمَامَهُ... لِأَبْقَى دَائِمًا قَوِيَّةً، وَأُكْمِلَ مَسِيرَتِي."
مَا أَكْثَرَ الآبَاءَ فِي الحَيَاةِ، وَلَكِنْ مَا أَقَلَّ مَنْ يَتَّخِذُ حُبَّ ابْنَتِهِ قَضِيَّةَ وُجُودٍ، وَمِرْآةَ نَجَاحٍ. فَوَضْعُ الصُّورَةِ أَمَامَ عَيْنَيْهِ لَمْ يَكُن فِعْلًا عَفْوِيًّا، بَلْ مَوْقِفًا مُلْتَزِمًا بِالدَّعْمِ، وَحِرَاسَةً لِذَاكِ الطِّفْلَةِ الَّتِي كَبُرَتْ فَصَارَتْ فَنَّانَةً، تَحْمِلُ مَسِيرَةَ أُسْرَةٍ كَامِلَةٍ عَلَى كَتِفَيْهَا.
الآنَ... تَقُولُهَا صَرِيحَةً: "بَابَا وَحَشْتَنِي قَوِي..."
ثُمَّ جَاءَتْ الجُمْلَةُ الَّتِي هَزَّتِ القُلُوبَ، وَكَأَنَّهَا طَعْنَةُ حَنِينٍ:
"بَابَا وَحَشْتَنِي قَوِي... يَا عَظِيمَ الفِكْرِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ، اللَّهُ يَرْحَمُكَ يَا حَبِيبِي."
فِي هَذِهِ الجُمْلَةِ المُخْتَصَرَةِ، كَانَت تَجْرِبَةُ الْفِقْدِ كُلُّهَا. لَمْ تَكُنْ سِيمون تُخَاطِبُ وَالِدَهَا فَقَط، بَلْ كَانَت تُنَادِي كُلَّ آبَاءٍ رَحَلُوا وَتَرَكُوا بَنَاتِهِم يَحْمِلْنَ أَثَرَهُمْ كَنُورٍ دَاخِلِيٍّ، وَدَمْعَةٍ دَافِئَةٍ عَلَى طَرَفِ العَيْنِ.
سِيمون... مِرْآةُ فَنٍّ نَقِيٍّ وَتَربِيَةٍ عَظِيمَة
لَمْ تَكُنْ سِيمون طَوَالَ مَسِيرَتِهَا فَنَّانَةً فَقَط، بَلْ صَوْتًا نَاعِمًا لِمَبَادِئَ كَبِيرَة. وَفِي يَومِ الأَبِ العَالَمِيّ، أَثْبَتَتْ مَرَّةً أُخْرَى أَنَّ الأُصُولَ لَا تَتَغَيَّرُ، وَأَنَّ الشُّهْرَةَ لا تَغْطِي عَلَى صَوْتِ الحَنَانِ العَائِلِيِّ، وَلَا تُغْنِي عَنْ ذِكْرَى الأَبِ الَّذِي غَرَسَ وَحَصَدَ، وَعَاشَ وَمَاتَ وَقَلْبُهُ يَنْبِضُ بِاسْمِهَا.
فِي الْخِتَامِ... وَفَاءٌ يَكْتُبُ التَّارِيخَ
رَسَالَةُ سِيمون فِي يَومِ الأَبِ العَالَمِيّ لَمْ تَكُن مُجَرَّدَ تَغْرِيدَةٍ عَاطِفِيَّة، بَلْ وَثِيقَةُ شَرَفٍ، وَكِتَابُ وَفَاءٍ مَفْتُوح. نَعَم، هُنَاكَ نُجُومٌ تَلْمَعُ عَلَى المَسَارِحِ، وَلَكِنَّ نُجُومًا أُخْرَى تَلْمَعُ فِي قُلُوبِنَا، لِأَنَّهَا صَدَقَتْ، وَوَفَتْ، وَأَحَبَّتْ... كَسِيمون.
رَحِمَ اللهُ وَالِدَهَا، وَرَحِمَ كُلَّ أَبٍ عَبَرَ حَيَاتَنَا وَتَرَكَنَا نَكْبُرُ فِي ظِلِّ ذِكْرَاهُ...
تعليقات
إرسال تعليق