القائمة الرئيسية

الصفحات

دفتر المقعد الأخير 

لم يكن أحد يعرف اسمها الكامل.
في المدرّج الكبير،
كان المقعد الأخير لها.. دائمًا.

كانت تصل باكرًا، تجلس في الزاوية ذاتها،
تفتح دفترها، وتراقب من بعيد.
كلّ ما حولها يعجّ بالأحاديث والضحكات،
وهي في صمتٍ أنيق، كأنّها تنتمي إلى مكانٍ لا يراه أحد.

ملامحها لا تُدهش،
وملابسها لا تُلفت،
لكنّ عينيها...
كأنّ فيهما خريطةً لأفكارٍ لا تُقال،
وفوضى مشاعرَ تمشي على أطراف أنفاسها.

لم تكن غريبة،
لكنّها اختارت أن تكون ظلًّا:
أن ترى دون أن تُرى،
أن تفهم دون أن تشرح،
أن تعرف. دون أن تُسأل.

في المحاضرات،
كانت تكتب كلّ شيء،
ليس لتُذاكر، بل لتتأمّل.

وحين يعلو صوت الأساتذة،
كانت تصمت أكثر،
كأنّ في داخلها صوتًا لا يليق بالصخب.

ذات مرة، تردّدت ورفعت يدها.
نظرت حولها،
ثم خفضتها بسرعة،
قبل أن يلاحظها أحد.

سمعت همسةً خلفية من فتاةٍ تضحك:

"هي؟ منذ متى وهي معنا أصلًا؟"

انكمشت على نفسها،
لكنّها لم تبكِ، ولم تكرههنّ.
فقط شعرت أنّ كلماتها، لو خرجت،
لن تجد من يستقبلها كما يجب.
في الاختبارات، كانت الأذكى.
وحين أعاد أستاذ المادة أوراق التصحيح،
وقف لحظةً وقال:

"ثمة ورقة هنا... كُتبت وكأنّها فُكّت من صمتٍ قديم."

ولم يعرف أحد أنّها ورقتها.

كتب لها على الهامش:

"إجابتك عميقة... لماذا لا تتكلمين في المحاضرة؟"

فردّت على قصاصةٍ صغيرة،
طوتها داخل الورقة:

"لأنني حين أتكلم،
أسمع صدى الشك في عيونهم،
وحين أكتب،
أشعر أنّني موجودة."

في الندوة الفصلية، أُعلِن اسمها كأولى المتفوّقات.
سكن الهمس وتبادل الحظور النظرات 
وتمتمت فتاةٌ في الخلف:
"هي؟ مستحيل."

لكنّها صعدت، ووقفت خلف الميكروفون.
لم ترتجف،
ولم تبحث عن الكلمات،
فقط فتحت دفترها،
وقرأت:

"كنتُ أجلس في الخلف،
ليس لأنني لا أملك شيئًا لأقوله،
بل لأنّ أحدًا لم يسألني يومًا عمّا في قلبي.
اخترتُ الصمت،
لأنّ الكلام في الزحام يُفقدني ملامحي.
وها أنا هنا، لأقول:
بعض الذكاء لا يصرخ،
وبعض النور لا يسطع،
وبعضنا لا يحتاج جمهورًا كي يُثبت أنه يرى أكثر."

ومنذ ذلك اليوم،
بدأ الضوء يصل إلى المقعد الأخير.
أصبح يُفتقَد حين يغيب،
وصارت بعضهنّ يجلسن هناك...
لا ليختبئن،
بل ليبدأن.

الكاتب : إدريس أبورزق

تعليقات