القائمة الرئيسية

الصفحات

في المطار... فقدتُ شيئًا لا يُسترجع

في المطار،
لم أنسَ حقيبتي.
لم أضيّع جواز سفري.
لم أُخطئ بوابة الصعود.
لكني فقدت شيئًا لا يُسترجع…
فقدتُ نفسي.

كل شيء من حولي كان يبدو رتيبًا:
أسماء الرحلات تُتلى بصوت آلي،
أشخاص يضحكون دون أن يعلموا كم من القلوب تنكسر بصمت،
وحقائب تسير فوق الأحزمة وكأنها لا تعرف ما الذي تُخفيه داخلها من فَقد.

أما حقيبتي، فكانت تُجرّ خلفي،
لكنها لم تكن وحدها التي أثقلَت يدي.
كنت أجرّ معها وجوهًا لا تفارقني:

أمي،
بعينيها الممتلئتين بدعاءٍ خائف،
تحبس دمعتها في زاوية لا تصلها الشمس،
وتبتسم لي كي لا تضعف،
لكن صوتها كان يرتعش وهي تهمس:
"رد بالك على روحك يا وليدي."

أختي،
تضحك بارتباك كعادتها حين تخاف أن تبكي،
تودّعني بنكتة سخيفة،
ثم تلتفت سريعًا كي لا ترى نظرتي.

زوجتي،
كانت تحاول أن تبدو قوية،
لكنّ عينيها كانتا تخونانها،
تنظر إليّ نظرة طويلة… كأنها تحفظ وجهي.
وابنتي،
تلك الصغيرة التي أمسكت طرف قميصي بأصابع مرتجفة،
كأنها تظن أن بإمكانها أن تمنع الطائرة من الطيران،
إن هي تمسّكت بي أكثر.

ووسط هذا المشهد. 
كان هناك غياب واحد لم يكن بيده، لكنه كان كافيًا ليكسرني من الداخل:
ابني.
لم يأتِ،
لكنني كنت أعرف السبب.
كان غيابه موجعًا، لكنه مبرَّر.
أرسل لي صوتَه في رسالة قصيرة:
مع السلامة يا بّا. اتمنى لك رحلة ممتعة 
استمعتُ للرسالة أكثر من مرة،
وفي كل مرة 
لم يكن صوته وجعًا…
بل اعتذارًا ناعمًا زرع في قلبي فراغًا مؤقتًا
ألمح فيه حنانه من بعيد، دون أن ألمسه.

حين نادى الموظف اسمي،
شعرتُ أنني لا أتقدّم، بل أُقتلع من الأرض.
كل خطوة نحو البوابة كانت اقتلاعًا جديدًا من أرضي،
من بيتي، من يدي الصغيرة التي ما زالت تمسكني،
من وجه زوجتي الذي بدأ يتلاشى خلف الزجاج.

وقفتُ أمام نافذة الطائرة.
رأيت جسدًا معدنيًا ضخمًا، لا قلب له،
سيحملني بعيدًا عمّن يحبّونني أكثر من أي وطن.
أردت أن أركض عائدًا،
أن أقول لهم:
"نسيتُ شيئًا لا يمكن أن يوضع في الحقيبة… نسيتُ قلبي عندكم."

لكن لا أحد يسمح لك أن تتراجع
بعد أن تمضي خطوة واحدة في طريق الرحيل.

لم أبكِ.
لكنني شعرت أن جزءًا من روحي
ما زال واقفًا عند الباب.
ينظر لي بدهشة،
ويقول:
"لا تتركني هنا وحدي."

منذ ذلك اليوم،
كلما سمعت نداء طائرة في السماء،
أشعر أن شيئًا بداخلي يتحرّك… لا فرحًا، بل حنينًا موجعًا.
وكلما وقفتُ أمام مرآة الغربة،
رأيت رجلاً يشبهني،
لكنه ليس أنا.
أنا الذي بقي هناك.
عند حضن أمي،
وعند يد ابنتي،
وفي فراغٍ تركه غياب ابني.

الكاتب : إدريس أبورزق

تعليقات