القائمة الرئيسية

الصفحات

سفّاح النفوس

كانت هالة تمشي في الشارع شبه غائبة عن الوعي، تجر قدميها فوق الأرصفة كأنها تجر عمرها المتعب.
لم تكن تنظر إلى شيء، ولم تكن تسمع غير صدى صوتٍ خافت ينبعث من أعماقها:
"لماذا حدث هذا بي؟ لماذا أنا؟"

في زحمة البشر، كانت وحدها.
أصدقاؤها خذلوها، وأحلامها نزفت حتى الموت على عتبات الخيبات.
منذ أن كانت صغيرة، كانت تبني لنفسها عالمًا شفافًا.
عالمًا تصدق فيه الكلمات، وتؤمن بالوعود، وتظن أن الطيبة وحدها درع ضد الألم.
لكن الواقع كان سفّاحًا، يتقن الطعنات في وضح الابتسامات.

في المساء، جلست على حافة سريرها القديم، تحت مصباح خافت تتراقص حوله الذكريات كالعثّ، تحترق عند اقترابها من الضوء.
مدّت يدها نحو دفترٍ مهترئ، فتحته بيدين مرتجفتين، فتناثرت من بين الصفحات صورٌ لوجوهٍ كانت تظنها خالدة.
ضحكت بمرارة.
"كل شيء يموت، حتى من كنا نحسبهم وطناً..."

كانت الصور تخون ذاكرتها، كانت الأصوات في رأسها تصرخ:
"أنتِ لستِ كما كنتِ، لقد قتلوكِ حيّة."

في زاوية الغرفة، وقف شبحه.
ذاك الذي سلمته مفاتيح قلبها، ليغلق عليها أبواب الحياة واحدة تلو الأخرى.
لم يكن يحبها كما زعم، كان يعشق فقط صوت خضوعها، دموع انكسارها، تضرعها الصامت في الليالي التي كانت تستجدي فيها قليلًا من الرحمة.
كان يغرس خناجره في صدرها بابتسامة دافئة، ويوهمها أن الألم هو الحب.

لم يكن سفاح النفوس مجرد قاتل، بل كان فنانًا في انتزاع الأرواح دون أن يريق دمًا.
يعرف كيف يسرق النبض من القلوب، كيف يطفئ النور من العيون، كيف يترك الإنسان حيًّا بجسد ميت ونفس خاوية.

في تلك الليلة، جلست هالة تحدق في نفسها داخل مرآة متشققة.
رأت امرأة لم تعرفها من قبل:
عينان غارقتان في بحر من الخذلان، وشفتان ترتجفان دون صوت.

وهمست كمن ينطق بالحقيقة لأول مرة:
"أنا لست بخير... أنا أموت منذ سنوات ولا أحد يلاحظ."

ثم انفجرت بالبكاء، ليس ذلك البكاء الذي يخفف الألم.
بل ذاك البكاء الصامت الثقيل، الذي يسحب القلب إلى قاع الحزن بلا رجعة.

على الطرف الآخر من المدينة، كان سفاح النفوس يحتفل بانتصار جديد، يضيف روحها المنهكة إلى مجموعته المخفية من الأرواح التي سرقها بلا سكين، بلا دماء، فقط بكلمات منمقة ووعود ملوثة.
كان يعلم أن لا أحد سيحاكمه، لأن جريمته لا تُرى.
لا تُسمع.
بل فقط تُحسّ، تُنزف في صمتِ الضحايا الذين يواصلون العيش كالأطلال.

وفي تلك اللحظة، أيقنت هالة الحقيقة:
بعض السفاحين لا يسكنون السجون.
بل يسكنون الذاكرة، يسكنون القلب، يسكنون الأماكن التي كانت يومًا ملاذًا، فيحولوها إلى قبور مفتوحة.

أسدلت الستائر، أطفأت النور، وأقسمت أنها ستتعلم كيف تحيا من جديد.
أو تموت كاملةً، دون أن تسمح لهم بقتل ما تبقى منها بالتقسيط.
في صباح رمادي، دقّت هالة باب الماضي الذي حاولت مرارًا أن تهرب منه.
كان الباب نصف مفتوح، كأنه كان ينتظر عودتها.
وكأن الجراح لا تُشفى، بل تتربص بمن يحاول نسيانها.

دخلت الغرفة، وهو جالس على الكرسي ذاته، بملامحه الهادئة الباردة، يحتسي قهوته كما لو أن شيئًا لم يكن.
رفعت عينيها نحوه، بقلبٍ يئن تحت ركام الخيبات، وقالت بصوت لم تعرفه من قبل:
ــ لماذا؟

رفع رأسه ببطء، وابتسم تلك الابتسامة التي كانت يومًا تهز كيانها حبًا، وتهزّه الآن اشمئزازًا.
لم يجب.
بل اكتفى بأن أشعل سيجارته، وكأن الألم الذي سببّه لم يكن يستحق حتى تبريرًا.

تقدمت نحوه خطوات ثقيلة، كل خطوة كانت تسحب منها سنوات من الذل والانكسار، حتى وقفت أمامه مباشرة، ترتعش كطفلة ضائعة.
رفعت يدها المرتجفة وألقت في حضنه دفتر ذكرياتهما. ذلك الدفتر الذي ملأه بوعود لم تتحقق وكلمات كانت قنابل موقوتة.

همست بانكسار:
ــ هذا عمري الذي سرقته. خذه، أعده لي إن استطعت.

ضحك. ضحك ببرودٍ يحطم الجبال.
ــ كنتِ مجرد لحظة عبور، لا أكثر.

في تلك اللحظة، شعرت هالة أن الهواء نفسه قد توقف عن التنفس.
انفجرت الدموع من عينيها، كأنها لم تبكِ من قبل.
بكاءً عاريًا، موجعًا، صاخبًا، لا يشبه أي بكاء آخر.
كانت تبكي عن كل ليلة قضتها ترتق جراحها وحدها، عن كل صباح استيقظت فيه بقلب مثقوب.

سقطت على ركبتيها، خارت قواها أمام القسوة المجرّدة من الرحمة.
كانت كأنها تتوسل للكون بأكمله أن يعيد لها ذاتها التي دُفنت حية.

ــ لم أكنُ لحظة... كنت إنسانة... كنت أؤمن بك، صدقتك حين كذب الجميع.

لكنه لم يتحرك. لم يمدّ يده. لم ينزل بصره.
كان ينظر إليها كمن يتأمل عملًا فنّيًا مات بين يديه.

في تلك اللحظة، نهضت هالة من بين دموعها، لملمت فتات كرامتها، ومسحت دموعها بكم قميصها المهترئ، وقالت:
ــ أما أنا. فسأعود إنسانة. لن أكون ذكرى في سجل انتصاراتك.

خرجت من الغرفة بخطوات بطيئة... لكنها خطوات امرأة ولدت من رحم الألم.
خلفها كان الماضي يحترق. ولم تلتفت.
لم تعد بحاجة إلى تفسير، ولا إلى عدالة متأخرة.
وكانت تدرك، للمرة الأولى، أن حب الذات لا يحتاج إذنًا من أحد.
فأحيانًا. يكفي أن تعرف كم كنت غالية على نفسك، بعد أن عرفت كم كنت رخيصةً عند غيرك.

في الطريق، كانت السماء تمطر بشدة...
لكنه كان مطرًا مختلفًا.
كان كأن السماء تبكي لها. تبكي عليها.
تبكي منها.

الكاتب  إدريس أبورزق
  المغرب

تعليقات